غرفة المخزن
من صغري وانا زي أي طفل.. بخاف من الضلمة، من العفاريت وسيرتهم.. من حكايات امنا الغولة وابو رِجل مسلوخة والنداهة، عادي يعني.. ما انا كنت زي أي طفل بيخاف من الحاجات اللي سمع عنها وماشفهاش قبل كده، لكن بعد كده الموضوع اختلف... انا مابطلتش اخاف من الحاجات اللي سمعت عنها وماشوفتهاش.. لأ، انا فضلت زي ما انا بخاف.. لكني بقيت بخاف من الحاجات اللي ياما سمعت عنها من وانا صغير، ولما كبرت للأسف شوفتها...
ما انا لما كبرت ودخلت أولى أعدادي وخلصتها، اتفاجأت في يوم بابويا وهو بيقول لامي..
-خلاص ياداليا.. الحمد لله إنهم أخيرًا وافقوا على طلب النقل.
بعد كلام ابويا ده، امي بصتله بنظرة كلها حب وسعادة..
-ياالله.. أخيرًا ياابو حمدي هنرجع كفر الشيخ، طب والله العظيم انا ما مصدقة.
قرب منها ابويا وقال لها بسعادة هو كمان..
-لا ياحبيبتي صدقي.. احنا هنرجع بلدنا تاني، المدير بلغني من شوية إن انا من أول الشهر هستلم شغلي وبنفس الدرجة والمرتب كمان، بس في فرع الشركة بكفر الشيخ بدل فرع القاهرة.
كانوا بيتكلموا وهم فرحانين اوي ماعرفش ليه، انا من يوم ما وعيت على الدنيا وانا عايش حياتي هنا في القاهرة، والبلد او كفر الشيخ اللي هم بيتكلموا عنها دي، كنت يادوب بروحها معاهم في الأعياد عشان نزور أجدادي وعمامي وخيلاني، وحتى في خلال الزيارات السريعة اللي كنت بروحها، كنت بحس إن انا لا مرتاح للجو ولا لزحمة العيلة ولا لأي حاجة، بس اهو.. هعمل ايه يعني، تفتكر طفل في المرحلة الأعدادية ممكن يقول لابوه ماتحققش حلمك بالرجوع لبلدك وخليك في القاهرة!
ده كلام مستحيل، لأني حتى لو قولته وابويا سمعه منه وماضربنيش ولا زعقلي، فبالتأكيد مش هينفذه لأنه كلام عيل، وعشان كده سكتت.. سكتت وفضلت ساكت لحد ما ابويا وامي جهزوا الشنط ونقلوا العفش من شقة القاهرة، لشقة ابويا اللي جدي كان جايبهاله في كفر الشيخ، وبعد ما العفش اتنقل وكل شيء بقىجاهز، سافرنا من القاهرة وسيبنا ورانا ذكريات وسنين عيشناها، وروحنا لكفر الشيخ عشان نبدأ فيها حياة تانية وذكريات جديدة، ومن عند وصولنا لشقتنا الجديدة، ابتدت الحياة تاخد شكل تاني.
في الأول كنت حاسس بملل وزهق لأني ماليش اصحاب العب معاهم على عكس القاهرة اللي كان لي فيها اصحاب كتير، بس الحال ده مادامش كتير.. الملل بدأ يخف شوية بشوية لما اتصاحبت على اصحاب جداد، وكمان لما اتعرفت على ولاد وبنات عمامي وخيلاني كويس وقربت منهم، وبدل بقى الكام صاحب اللي كانوا ليا في القاهرة دول، بقى عندي عزوة وقرايب وصحاب اكتر.. ومع الوقت ومرور الأسابيع، ابتديت اخد على الأجواء وكمان احبها، لحد ما خلصت الأجازة وجه وقت الدراسة، وطبعًا موضوع المدرسة ده مافاتش على ابويا اللي جاب ورقي من مدرستي اللي في القاهرة، وقدملي في مدرسة في البلد، ومن عند المدرسة الجديدة بتبدأ حياتي تاخد شكل مظلم أكتر، وقبل بس ما اقولك الشكل المظلم ده ظهر في حياتي ازاي، خليني في الأول اشرحلك شوية تفاصيل كده بخصوص مدرستي الجديدة لأنها هتساعدك في فهم أحداث كتير هتحصلي بعد كده؛ المدرسة اللي دخلتها دي ماكانتش مدرسة واحدة، دي كانت مدرستين في مدرسة، او بمعنى أوضح يعني.. المدرسة كان فيها الدراسة على فترتين؛ فترة صباحية من الساعة ٨ الصبح لحد بعد الضهر.. وفي الفترة دي كانت المدرسة بتبقى مدرسة إبتدائية مشتركة، إسمها على إسم واحد من الصحابة، اما بقى الفترة المسائية اللي بتبدأ من بعد الضهر لحد المغرب تقريبًا، فدي كانت المدرسة بتتقلب فيها من مدرسة ابتدائية، لمدرسة إعدادية للبنين، دراسة مختلفة وطلاب مختلفين وكمان إسم مختلف للمدرسة.. اه ماتستغربش، المدرسة الصبح وهي إبتدائي كانت على أسم صحابي جليل زي ماذكرت، لكن في الفترة المسائية وهي مدرسة إعدادية، كانت على أسم زعيم شعبي وقائد سياسي معروف.. ولحد هنا بقى اقدر اقولك إن انا شرحتلك نظام المدرسة بيبقى عامل ازاي، وأظن من كلامي، حضرتك قدرت تعرف إني طالما في المرحلة الأعدادية، فبديهي كده دراستي هتبقى في الفترة المسائية، وفعلًا بدأت الدراسة ودخلت المدرسة.. المدرسة اللي أول مادخلتها كنت بتفرج على المباني بتاعتها وانا منبهر.. "ده قصر مش مدرسة!"
قولت لنفسي كده وانا منبهر بشكلها، لحد مابعد فترة من الدراسة، عرفت إن المدرسة دي زمان كانت استراحة للملك فاروق في كفر الشيخ، وبعد ثورة ٥٢.. الاستراحة دي فضلت مقفولة لفترة كبيرة لحد مافي عهد الرئيس السادات، اتحولت الاستراحة لمدرسة إبتدائية، ومع مرور الوقت وفي فترة حكم محمد حسني مبارك، كترت المواليد في البلد، والمدارس الإعدادية مابقتش قادرة تستوعب عدد الطلاب اللي فيها، وعشان كده وقتها وزير التربية والتعليم، قرر إن الاستراحة دي تبقى مدرستين على فترتين، واحدة إبتدائي وواحدة إعدادي.. وبصراحة الموضوع كان بالنسبة لي غريب شوية لأنه كان جديد عليا، بس مع الأيام.. أخدت على المدرسة وبقى ليا اصحاب كتير، وكمان ابتدوا المدرسين يحبوني لأني كنت مؤدب ومتفوق في دراستي، وفضلت كده لحد ما دخلت سنة تالتة إعدادي، ودي ببساطة كده للي مايعرفش يعني، هي السنة الأخيرة في المرحلة الإعدادية، يعني من بعد ما خلصها هسيب المدرسة دي للأبد وهروح لأولى ثانوي في مدرسة جديدة، ولأن انا وزمايلي كنا في أخر سنة، فاحنا قُرب نهاية العام الدراسي كده، ماكناش بنحضر كتير لأننا تقريبًا كنا خلصنا المنهج، او تقدر تقول كده إننا كنا بنروح كل كام يوم عشان نحضر المراجعات النهائية وبس، لحد ما في يوم من الأيام، وبعد ما خلصنا مراجعة مادة العلوم، خرج الأستاذ بتاع المادة ودخل بعده أستاذ تاني.. الأستاذ ده ماكنش بيدي مواد دراسية، هو كان زي مشرف اجتماعي او ماسك حاجة في الإدارة، بس لأننا بنحترمه وبنقدره يعني، فاحنا كنا بنقوله يا أستاذ زيه زي بقية المدرسين.
فالأستاذ ده أول ما دخل الفصل قال لنا بحزم...
-المفروض يا ولاد إن انتوا دلوقتي يبقى عندكوا حصة مراجعة لمادة الدراسات وبعدها حصتين مراجعة عربي، صح كده؟!
لما سألنا، كلنا ردينا عليه في نفس واحد.. مظبوط يامستر، فكمل كلامه وقال لنا..
-طب تمام.. دلوقتي بقى أستاذ ممدوح مدرس الدراسات ماجاش، واستاذ ماهر مدرس العربي بيدي حصة لفصل تاني، يعني الحصة اللي انتوا فيها دي هتكون حصة فاضية، والمفروض إن انا هكون معاكوا فيها، بس في الحقيقة يا ولاد انا ورايا شغلي إداري كتير وعايز اخلصه، فانا هروح مكتبي اخلص شوية من الشغل اللي ورايا، وانتوا هتنزلوا في الحوش تلعبوا بس من غير صوت، وبعد ما وقت الحصة الفاضية يخلص، هنده عليكم عشان تطلعوا الفصل، ها قولتوا ايه؟!
لما قال لنا كده بصراحة، كلنا فرحنا وفضلنا نهيص، فبسبب صوتنا العالي وهيصتنا.. اتعصب الأستاذ وماكنش هينزلنا، لكننا اتحايلنا عليه وحلفنا له إننا هنلعب من غير أي صوت، ففي النهاية وافق عشان يشوف شغله الأساسي ويريح دماغه مننا وخلانا نزلنا الحوش وبدأنا نلعب مع بعض بكورة شراب قديمة كانت مرمية في ركن كده جنب مبنى من المباني، وخليني اقولك إننا يومها ماكناش كتير.. احنا كنا حوالي ١٥ طالب، شوية مننا خدوا بعضهم وراحوا قعدوا في ركن كده، والباقين وانا منهم، قسموا نفسهم لفريقين وابتدى اللعب..
فضلنا نلعب مع بعض لحد ما واحد مننا إسمه حسن، شاط الكورة بعيد وخلاها تدخل جوة أوضة المخزن اللي في نهاية الحوش من جوة، والأوضة دي ماكانتش مخزن بالمعنى الحرفي يعني.. هي كانت أوضة كده ليها باب خشبي على طول بيبقى موارب وماحدش بيقدر يدخل منه بسبب تحذيرات المدرسين بأن اللي هيقرب منها هيتمد على رجله، وعلى جدرانها كان واضح اوي شباكين عاليين كنا بنبص منهم ومابنشوفش أي حاجة بسبب ضلمة الأوضة!
ففي الوقت ده لما حسن طَوح الكورة ناحية شباك المخزن وخلاها تدخل جواه، اتضايق اوي واحد من زمايلنا لدرجة إنه كان هيضرب حسن، لكن انا بقى ومعايا واحد زميلنا كمان إسمه حامد، اتدخلنا وقولنا للباقيين إننا هنروح مع حسن للأوضة عشان نرجع الكورة.. في الأول حسن خاف واتهز شوية بسبب التحذيرات وبسبب ضلمة الأوضة، إلا إننا جمدنا قلبه وخدناه "انا وحامد" وروحنا ناحية الأوضة على مرئى ومسمع من كل اللي واقفين في الحوش..
ومع وصولنا للأوضة، قربنا احنا التلاتة من الباب وزقيناه بالراحة عشان يتفتح ونلاقي وراه دكك متكسرة وكراسي خشبية من غير رجلين وكذا حاجة من أثاثات المدرسة، كذا حاجة شكلهم كده متكسرين ومركونين في الأوضة دي، وقتها بص حامد جوة الأوضة وقال لي وهو بيتريق..
-الحق ياض يا حمدي، الأوضة كلها دكك وكراسي متكسرة، دي شكلها أوضة كُهنة مش مخزن زي مابيقولوالنا.
اتقدمت خطوتين وانا ببص جواها..
-مش مهم بقى ياحامد.. كُهنة ماكُهناش.. احنا مالناش دعوة، احنا هندخل احنا التلاتة وندور على الكورة ونجيبها بسرعة ونخرج تاني قبل ماحد من المدرسين يشوفنا.
ارتبك حسن اللي كان واقف ورانا وقال لنا بصوت مهزوز..
-لا لا.. انا خايف.. ادخلوا انتوا وانا هقف استناكوا هنا.
بص له حامد من فوق لتحت..
-خايف وادخلوا انتوا!.. طب تصدق بقى إن انا والوله حمدي غلطانين عشان جينا معاك، احنا المفروض كنا سيبناك تيجي تجيبها لوحدك، ولا كنا سيبناك للواد حسان التخين يضربك، يلا ياعم حمدي نرجع.. يلا ياعم انا مش ناقص، سيبه هو بقى يدخل يجيبها لوحده.
وقتها حاول حسن يتماسك ويداري ارتباكه..
-خلاص خلاص.. انا هدخل معاكوا.
لما قالنا كده اتشجع ودخل ورانا، في الوقت ده كان بعد صلاة العصر بشوية، وفي الحقيقة ماعرفش شوية قد ايه لأن انا ماكنش معايا ساعة وقتها، بس كل اللي اقدر اقولهولك إن الدنيا كانت نهار والشمس كانت طالعة في كل مكان، إلا الأوضة بنت الجزمة دي، الأوضة بالرغم من إن فيها شبابيك وبابها كان مفتوح، إلا إنها كانت عاملة زي القبر، نور الشمس اللي كان بيدخل جواها كانت بتبلعه في ضلمتها، ده غير طبعًا ريحتها المعفنة اللي خلت حامد يحط إيده على مناخيره وهو بيتلفت حواليه..
-إفف.. ايه الريحة المعفنة دي، هي الأوضة دي فيها ميت ولا ايه، وبعدين ايه الضلمة البشعة دي، دي الدنيا كُحل.. وبعدين احنا هنشوف الكورة ازاي كده؟!
رديت عليه وانا ببص ناحية شباك من الشباكين..
-عادي عادي.. احنا نتمشى بالراحة وسط الخشب لحد مانوصل عند الشباك الأولاني ده وأكيد هنلاقيها تحته، ماهي الكورة دخلت منه لجوة الأوضة.
سمع حامد كلامي واتمشينا انا وهو ناحية الشباك وورانا حسن.. حسن اللي كان ماشي ورانا ببطء وهو بيترعش من الخوف، لكن فجأة ووقت ماكنا بنعدي من مابين الدكك والكراسي الكتير اللي مترمية على الأرض، فجأة سمعنا صوت خربشة ومعاه صوت باب الأوضة وهو بيترزع، وبعده سمعنا هبدة قوية، معاها سمعنا صوت صرخة حسن!
اترعبت طبعًا انا وحامد اللي مابقتش شايفه من الضلمة، اما حسن بقى، فانا مابقتش عارف هو حصل له أيه، انا اتسمرت في مكاني لثواني من المفاجأة لحد مافوقت على صوت حامد وهو بيقولي بصوت مهزوز وخايف..
-حسن.. حسن راح فين، ياحسن.. ياحسن!
فبدأت انادي انا كمان معاه على حسن لحد ماصوت حامد اختفى!
وقتها الرعب اتملك مني وبدأت اَلوش في الضلمة وانا بنادي عليهم هم الاتنين لحد ماسمعت من مكان ما في الأوضة، صوت أشبه بصوت آنين مصحوب بصوت خوار شبه صوت الخروف وهو بيتدبح في عيد الاضحى!
اترعبت من الصوت اللي سمعته فجأة وفضل مستمر، بس لما ركزت معاه ومع نبرة صاحبه، اكتشفت إنه جاي من حسن!
قعدت على الأرض وابتديت امشي على إيدي ورجلي ورا الصوت وانا بنادي بصوت عالي..
-ياحسن.. جرالك ايه ياحسن.. انت فين انت كمان ياحامد.. حامد.. حا...
سكتت فجأة لما وصلت لجسم شخص، ماعرفش كان جسم مين، هو كان جسم لحد فضلت امشي بإيدي عليه لحد ماوصلت لراسه، وهنا بقى كانت المصيبة، راس الشخص اللي كان واقع على الأرض ده كانت مبلولة بسائل لزج، ماخدتش وقت كبير عشان اعرف من كثافته ومن ريحته إنه دم، وبرضه ماخدتش وقت كبير عشان اعرف من صوت اللي واقع ده إنه حسن، وقتها ارتباكي وقلقي زادوا لدرجة إن انا بقيت بهز فيه زي المجنون عشان يقوم، لكني سكتت تاني لما سمعت من ورايا صوت غليظ بيتكلم بسرعة وبلغة غريبة!
فبسرعة اتعدلت وبصيت ناحية الصوت عشان الاقي حامد واقف تحت الشباك، وبسبب النور البسيط اللي كان داخل منه قدرت اشوفه، كان واقف في ثبات غريب.. عينيه كانت بيضا تمامًا وشفايفه كانت عمالة تتحرك بسرعة، ومع حركة شفايفه دي.. كنت سامع نفس الصوت.. صوت حد بيتكلم بالإنجليزي وبسرعة رهيبة، بس لا لا لا.. ده مش صوت حامد، هو كان قدامي اه وشفايفه كانت بتتحرك، بس الصوت ده لا يمكن يكون صوته أبدًا.. ده صوت لراجل كبير!
قومت وقفت وانا مبرقله بخوف وحرفيًا ركبي كانت بتخبط في بعض، بس في لحظة حسيت بإيد مسكت رجل بنطلوني، ومع المسكة دي سمعت صوت صرخة!
ضربت الإيد برجلي بكل قوتي، وجريت بسرعة من مكاني لناحية الباب اللي اتقفل، لكن وانا بجري وقبل ما اوصل للباب، بصيت ناحية حامد اللي كان لسه واقف ناحية الشباك وكان بيتكلم بصوت أعلى، وساعتها عنيا برقت لما لقيت حامد فاتح بوقه على الأخر وعينيه لسه بيضا، وكان عمال يهز في راسه شمال ويمين بحركة سريعة، لكن من وراه شوفت الأفظع.. انا شوفت راجل واقف وماسك مسدس!
كان شخص ملامحه بتدل على إنه مش مصري، شعره الأصفر وملامح وشه وعينيه الملونة ولبسه العسكري، كانوا بيدلوا على إنه ظابط أجنبي، هو ايه اللي هيجيب ظابط أجنبي لمخزن المدرسة!
مالحقتش افكر كتير لأنه بص لي وابتسم ابتسامة غريبة ومش مفهومة، وبحركة بطيئة جدا حَرك المسدس اللي كان في إيده ناحية راسه، وبسرعة جدًا داس على الزناد... في اللحظة دي بقى انا أول ماسمعت صوت الطلقة، روحت جري ناحية الباب، ولما حاولت افتحه وماتفتحش طبعًا عشان الرعب يكمل.. ناديت بعلو صوتي وانا سامع من ورايا كل الأصوات اللي كنت سامعها واللي كانت لسه مستمرة، سواء بقى صوت خوار حسن وآلامه، أو صوت حامد وهو بيتكلم اساسًا بصوت مش صوته، ده غير طبعًا صوت صرخات مجهولة المصدر كنت سامعها جاية من كل مكان في الأوضة..
(الحقوني.. الحقوني.. حد يفتحلي بسرعة.. هموت)
فضلت اخبط على الباب بكل قوة وانا عمال اصَرخ، لحد ما مرة واحدة لقيت الباب اتفتح من برة، رجعت لورا وقت ما الباب اتفتح عشان اكتشف إنهم زمايلي اللي كانوا برة، تقريبًا كده سمعوا صوتي وانا بخبط وجم فتحوا الباب.. الباب اللي بعد ما اتفتح طلعت جري من الأوضة، وماعرفش ايه اللي خلاني طلعت على الأستاذ اللي كان قاعد بيشتغل في مكتبه، واللي المفروض إنه يعني كان يفضل معانا طول الحصة الفاضية... الأيتاذ اللي أول ماشافني وانا بنهج ومتبهدل بص لي باستغراب وقام وقف وقرب مني..
-مالك ياحمدي.. شكلك عامل كده ليه؟!
رديت عليه وانا باخد نفسي بالعافية من الجري والرعب..
-حسن.. حسن راسه مليانة دم، وحامد عينيه بيضا وكان واقف وراه ظابط ضرب نفسه بمسدس.. الأوضة يامستر.. أوضة المخزن.
أول ما الأستاذ سمع مني كلمة المخزن دي، طلع يجري بسرعة ونزل من المبنى للأوضة وانا وراه، جرينا بسرعة ناحية باب الأوضة اللي كان واقف قصاده كل زمايلي في الفصل، زقهم المدرس ودخل بسرعة جاب او جرجر حسن وحامد وخرجهم من الأوضة، كانوا هم الاتنين في حالة غريبة؛ حسن كانت راسه عمالة تجيب في دم وكان عمال يتألم وهو مغمض عينيه، وحامد كانت عينيه بيضا تمامًا وكان عمال يتشنج ويتلوى زي التعبان وهو مرمي على الأرض، لحظات من الصمت والخوف والرعب، قطعهم الأستاذ لما بص لواحد من اللي كانوا واقفين مذهولين وقال له..
-اطلع بسرعة على أوضة المدير واحكيله اللي حصل وخليه يتصل بالأسعاف.. يلا بسرعة زميلك بينزف.
جري زميلي على أوضة المدير، وانا قعدت على الأرض وانا مش فاهم ولا لاقي تفسير للي حصل، الرؤية بالنسبة لي بدأت تبقى مشوشة، الأصوات كانت متداخلة، زمايلي وهم بيعيطوا.. صوت الأستاذ وهو بيسأل عن سبب دخولنا للأوضة، بعدهم صوت المدير وهو بيزعق وبيقول إن الأسعاف جاية في الطريق.. يوم من أصعب أيام حياتي، انتهى بأن حسن اتحجز في المستشفى بسبب إنه لما وقع جوة الأوضة، دخل مسمار في راسه، اما حامد بقى.. فده كان بَطل يتشنج لما وصل للمستشفى، ولما اتأكدوا إنه جسديًا سليم، روحوه البيت مع أهله زي ما انا كمان روحت مع أهلي بعد ما اطمنوا عليا، بس في الحقيقة حامد كان سليم جسديًا اه، لكنه كان ساكت وماكنش بيتجاوب مع أي حد بيكلمه، اما انا.. فانا حكيتلهم اللي حصل وانا جسمي كله بيترعش من الخوف، وفضلت في حالة الذعر والرعب دي لمدة أسبوع تقريبًا.. أسبوع مابنامش فيه بسبب الكوابيس اللي بطلها كان حامد والظابط إياه، حامد اللي انا وهو وحسن ماروحناش المدرسة من بعد اللي حصل لحد وقت الامتحانات، وفي وقت الامتحانات بقى او لما روحت انا، اكتشفت إن حامد ماجاش لأنه لسه ساكت وكل شوية بتجيله حالات تشنج، اما حسن.. ففضل في المستشفى وهو مغمى عليه لحد ما الدكاترة عالجوه وخرج، بس للأسف خرج كفيف.. ايوة، حسن اتعمى، وانا قضيت فترة الامتحانات في خوف ورعب وسط نظرات غريبة من زمايلي ومن المدرسين ليا، ماعرفش ليه كانوا خايفين يقربوا مني او حتى يتكلموا معايا!.. مع إن المفروض يعني إن انا اللي اخاف من المدرسة بسبب الأوضة، الأوضة اللي بعد كل امتحان ليا، كنت ببص عليها وعلى بابها اللي بقى مقفول بقفل كبير من بعيد من بعد اللي حصلنا، وانا قلبي بيدق بسرعة لحد ما كنت بخرج من باب المدرسة، ومع نهاية الامتحانات ومرور الأيام، ظهرت النتيجة وجيبت مجموع طبعًا زي الزفت، لكني الحمد لله يعني قدرت ادخل بيه ثانوية عامة، اما عن تطورات حالة حامد وحسن.. فحسن بعد ماخرج من المستشفى وهو مابيشوفش، فضل فترة كبيرة تعبان وبيحس بصداع غريب لحد ما اتوفى بعد شهور، اما حامد بقى، فده فضل على حاله من تشنجات وصريخ وشرود، لدرجة إن أهله لفوا بيه على شيوخ ودكاترة كتير، كلهم للأسف ماقدروش يخلوا حالته تتحسن، وانتهى بيه المطاف إنه شخص غير متزن، قاعد في بيت امه وابوه بياكل وبيشرب وبيقضي حاجته لحد ما بعد كام سنة كبر ومات موتة طبيعية، اما بالنسبة لتطوراتي انا بقى.. فانا حياتي مابقتش احسن حاجة، انا فضلت اعاني من الكوابيس ومن نظرات اللوم من ابويا وامي، لحد ما مع مرور السنين حياتي ابتدت تتحسن، خلصت ثانوي ودخلت جامعة وخلصتها وكبرت واشتغلت، وكل ده وانا عمري ما نسيت اللي حصل، وقبل ماتفتكر إن انا ممكن اختم حكايتي لحد هنا، فخليني اقولك لأ، الحكاية لسه فيها بقية، وبقية مهمة اوي كمان..
انا بعد اللي حصل ده حاولت اسأل كل اللي حواليا عن سبب اللي شوفته لكن ماحدش كان بيجاوبني، يعني مثلًا اللي كان يقولي ماتتكلمش في الموضوع ده تاني واحمد ربنا إنك خرجت من الأوضة دي سليم، واللي كان يبرقلي ويقولي اسكت وماتتكلمش في الموضوع ده تاني، لحد ما في يوم سألت عمي الصغير وهو الوحيد اللي جاوبني لما قال لي..
(شوف يا حامد.. المدرسة اللي انت كنت فيها دي، كانت استراحة الملك فاروق قبل ثورة ٥٢ بكفر الشيخ.. وبما إنها كانت إستراحة للملك، فطبيعي إن يبقى فيها حرس وعساكر، بس في الوقت ده بقى مش كل الحرس كانوا مصريين، دول كان فيهم ظباط أجانب ومعاهم شوية من المصريين.. ومن ضمن المصريين دول كان في عسكري غلبان بيخدم في الاستراحة دي، وفي مرة ووقت ما ظابط انجليزي من اللي كانوا موجودين في الحرس كان سكران.. حصلت مابينهم هم الاتنين خناقة بسبب إن الظابط شتم العسكري ده والعسكري كان صعيدي، فمن الأخر كده ماستحملش إنه يسمع شتيمته بودنه ويسكت، ده مسك الظابط وضربه، وطبعًا الظابط هو كمان ماسكتش، ده زقه بعيد عنه وبعد كده طلع مسدسه وضرب العسكري بالنار عشان يقع ومايقومش تاني، وطبعًا الموضوع اتدارى عليه واتقال إن العسكري ده انتحر والظابط فضل في مكانه، لحد مافي ليلة من الليالي ووقت ما كان قاعد في أوضة الحرس اللي هي الأوضة اللي دخلتها انت وزمايلك دي، واللي مات فيها من قبل كده العسكري الغلبان إياه.. ليلتها الظابط فضل يشرب ويشرب لحد ما فجأة ضرب نفسه بالنار وانتحر، ولحد كده الحكاية بتخلص بأن في عساكر قالوا إنه انتحر بسبب احساسه بالذنب، وكان في عساكر تانيين بيقولوا إنه انتحر لأنه كان بيشوف قرين العسكري اللي قتله وهو اللي خلاه يعمل في نفسه كده.. بس كل ده مش مهم؛ المهم إن من بعدها وكل اللي بيدخلوا الأوضة بيقولوا إنهم بيشوفوا فيها قرين او شبح الظابط اللي انتحر.. وفضلت على ده الحال لحد ما الثورة قامت والاستراحة اتقفلت، بس بالرغم من إنها اتقفلت، إلا إن الناس كانوا بيقولوا إنهم بيسمعوا منها أصوات صرخات وأصوات ضرب نار.. ومع مرور السنين الاستراحة اتقلبت لمدرسة وتقريبًا كده الأوضة دي قلبوها مخزن او أوضة كُهنة لأنها بعيدة عن باقي المباني، وبس كده يا سيدي.. ده كل اللي انا اعرفه واللي سمعته من الناس الكبيرة اللي كانوا عايشين في البلد من سنين)
وانا بسمع الكلام ده من عمي كنت بسمعه وانا مبرق، اللي انا شوفته كان حقيقة.. حقيقة مانستهاش ولا هنساها لحد ما اموت،حقيقة بسببها اتنين من زمايلي ضاعوا وانا خرجت مهزوز تملي أعصابي بايظة وبتخض من أقل صوت بسمعه جنبي، وحتى لما كبرت واتجوزت وخلفت وكمان سيبت كفر الشيخ خالص، فانا لسه برضه لحد دلوقتي بعاني من أثار اليوم ده، لسه لحد النهاردة أعصابي بايظة وإيديا بتترعش وكتير بصحى من النوم مفزوع.. بصحى مفزوع على صوت الرصاصة اللي متهيألي عمره ما هيفارق ذاكرتي هو وكل تفاصيل اليوم ده لحد ما اموت، وفي النهاية خليني اقولك إن المدرسة دي لحد النهاردة موجودة، بس انا مش هقول هي فين بالظبط ولا هقول إسمها لأنها حاليًا بقت مدرسة واحدة ابتدائية بفترة صباحية فقط، والفترة المسائية اتلغت لما بعض الطلاب قالوا إنهم كانوا بيسمعوا أصوات صرخات جاية من أوضة المخزن المقفولة!
تمت
محمد شعبان
غرفة_المخزن
التعليقات على الموضوع