إبحث عن موضوع

نصف قرن

لو نمت وصحيت، واكتشفت فجأة إنك كبرت خمسين سنة بحالهم، تفتكر ممكن يجرى لك ايه او شكل حياتك هيبقى عامل ازاي؟!
انا المهندس وليد محمود عوض الشامي، عندي ٢٥ سنة، عايش لوحدي في فيلا ورثتها عن جدي الله يرحمه.. جدي اللي ماكنليش في الدنيا غيره من بعد وفاة ابويا وامي ورا بعض وقت ما كان عندي ١٥ سنة، اه.. ما انا ابويا وامي اتوفوا وانا صغير لما حصلتلهم حادثة عربية، بعدها خدني جدي ابو ابويا وبقى هو اللي مسؤول عني وعن تربيتي، فكبرت واتربيت معاه في فيلته لحد ما بقى عندي ٢٥ سنة وهو وصل لسن ال ٧٥.. وطبيعي إن الحياة ما بيننا كان يبقى فيها فجوات، فجوات في التفكير وطريقة الكلام والعادات والتقاليد، لكن هقول ايه.. الحياة مابتدومش على حالها، جدي هو كمان مات وبقيت لوحدي في الدنيا، بس الحقيقة احساس الوحدة ماكنش مسببلي أي مشاكل، انا اصلًا شخص بيحب الروقان وراحة البال، فقعادي لوحدي ماكنش مشكلة بالنسبة لي، انا حياتي كانت تمام وفضلت تمام لحد ما حصل اللي خلاها تتقلب رأسًا على عقب زي ما بيقولوا..
انا في يوم من الأيام.. وعلى الساعة ١٢ بالليل، حسيت إني جعان اوي، ولأني عايش لوحدي زي ما ذكرت ومافيش حد بيخدمني من بعد ما مشيت الشغالة وقت ما كان جدي عايش، فبسبب جوعي وقتها فكرت اطلب دليفري من أي مطعم من المطاعم القريبة، بس لما مديت إيدي في جيبي ولقيت سجايري خلصانة، قولت مابدهاش بقى، انا هخرج اتمشى شوية واجيب أكل وبالمرة اجيب سجاير وشوية بقالة للبيت.
أخدت موبايلي وحطيت الهاند فري وشغلت مزيكا وخرجت للشارع، كنت ماشي سرحان وبدندن مع المزيكا اللي صوتها وقف فجأة لسبب ما، ولما فتحت موبايلي عشان اشوف الصوت سكت ليه، سمعت من على بُعد نص متر تقريبًا صوت كلاكس عربية، وقبل ما اتحرك او اعمل أي حاجة، كانت العربية جت ناحيتي وخبطتني بكل قوة عشان بعدها اقع على الأرض وابدأ افقد الوعي بالتدريج.. فقدت الوعي لفترة مش عارف قد ايه، هو بس كل اللي انا فاكره إني كنت بفوق كل شوية لمدة ثواني.. تقدروا تقولوا إني كنت بفوق على فترات، وفي معظم الأوقات اللي كنت بفوق فيها، كنت بلاقي نفسي نايم على سرير وحواليا دكاترة كتير منهم دكتور انا اعرفه كويس لأنه جارنا، الدكتور ده كنت كل ما افتح عينيا واتألم من شدة الصداع اللي كنت حاسس بيه، كان يقرب مني ويشاورلي بصوابعه ويحاول يعرف مني هو رافع كام صوابع، فطبعًا كنت بجاوبه بالعافية وانا بتألم، لحد ما من شدة الألم كنت بفقد الوعي تاني.. وفضلت على الحال ده كذا مرة، وحقيقي ماعرفش كان فات من الوقت قد ايه، لحد ما في مرة من المرات ووبعد ما فتحت عينيا وابتديت احس بالدنيا، اكتشفت وقتها إن الألم قل شوية، معنى كده إن انا بتعافى او يعني رجعت لوعيي بشكل طبيعي!
بصيت حواليا وانا مستغرب، انا كنت في أوضتي ونايم على سريري، بس كان جنبي أدوية كتير اوي وفي إيدي كان متوصل محقن بدايته عند دراعي، ونهايته في شمعدان فيه محلول!
حاولت اقوم من مكاني او اتعدل، بس غصب عني فجأة صرخت ومسكت راسي لما حسيت بألم فظيع اول ما اتحركت..
-ااه.. اه يا دماغي..
احساسي بالألم زاد اكتر لما حطيت إيدي على راسي واكتشفت إن عليها حاجة تقيلة اوي، لكن مع صرخاتي وشدة الألم، دخل عليا من باب الأوضة شاب ومعاه الدكتور جارنا.. دكتور عبد القادر اللي اول ما دخل هو والشاب اللي معاه قرب مني وقال لي بصيغة أمر..
-بالراحة، اوعى تتحرك اي حركة عشوائية لا تبوظ كل اللي عملناه.
قرب مني الشاب اللي كان معاه ده ورجعني نمت في مكاني تاني، في اللحظة دي قرب مني دكتور عبدالقادر وبص لي وهو بيبتسم..
-حمد لله على السلامة يا بطل.
بصيت له باستغراب ورجعت بصيت للشاب اللي واقف جنبه..
-انا ايه اللي حصل لي وجيت هنا ازاي؟!
بص له الدكتور عبد القادر وقال له بلهجة أمر..
-روح المطبخ وهاتله أي عصير من العلب اللي انا جايبها.
هز له الشاب راسه وخرج من الأوضة، بعد كده قرب مني الدكتور وقال لي وهو على وشه ابتسامة سعادة غريبة..
-ماتقلقش يا وليد.. انت في بيتك الحمد لله وفوقت من الغيبوبة ومن الحادثة كلها على خير.
رديت عليه وانا لسه باصص له باستغراب..
-غيبوبة!.. انا جرالي ايه وايه الحاجة التقيلة اللي على راسي دي، ما تفهمني يا دكتور عبد القادر انا فيا ايه!
طبطب عليا بالراحة وقال لي بكل هدوء..
-ماتقلقش، اشرب بس العصير اللي فرغلي هيجيبهولك، وبعد ما اتأكد إنك بقيت فايق وتمام هحكيلك كل حاجة، وماتحاولش تتحرك او تجهد نفسك لأن اي حركة كده ولا كده فيها خطر على حياتك.
سمعت كلام الدكتور وشربت شوية من العصير اللي الشاب جابهولي وابتديت افوق واستوعب الدنيا من حواليا اكتر واكتر، بعدها الدكتور طلب من فرغلي إنه يخرج ويسيبني انا وهو لوحدنا، وقبل ما اسأله او اقوله أي حاجة، قرب مني وابتدا هو الكلام..
-من حوالي تلات شهور كنت سهران في جنينة الفيلا بتاعتي لأني كنت قاعد بقرأ في كتاب مهم، ولأني عايش لوحدي زي ما انت عارف بعد ما مراتي ماتت وابني وبنتي اتجوزوا وسابوني، فانا كنت مشغل مزيكا هادية جنبي وانا بقرأ عشان مانامش، لكن فجأة وانا قاعد وسرحان مع القراية والمزيكا، سمعت صوت فرملة عربية وبعده سمعت صوت دوشة وناس بتزعق، ولما خرجت عشان اشوف في ايه لقيتك واقع وعربية خبطاك.. فبدون أي تفكير خدتك في عربيتي وروحت بيك للمستشفى الخاصة اللي انا صاحبها، وهناك بقى وبعد ما عملنالك الأسعافات الأولية وبعدها الأشعة والتحاليل، اكتشفنا كارثة.. انت يا وليد مخك بعد الحادثة اتعرض لتلف كبير جدًا، يعني خليني اقولك بشكل مُبسط إنك كنت هتموت، وحتى لو كنت عيشت فانت حياتك ماكانتش هتبقى زي الأول، وبرضه كنت هتموت، ففي النهاية أضطريت إن انا.. إن انا..
جاوبته وانا قلبي بيدق بسرعة..
-أضطريت إنك ايه.. ما تكمل.
قلع الدكتور نضارته وكمل كلامه..
-شوف يا وليد.. مخ الأنسان هو العضو الأهم في الجسم، يعني اللي بيجيله سكتة دماغية بيموت ومابيتلحقش، على عكس اللي بيجيله سكتة قلبية وممكن يتلحق بصدمات كهربية، فانت من الأخر كده مخك ماكنش نافع، وعشان اقدر احافظ على حياتك، اضطريت إن انا اعملك عملية زرع مخ.. وقبل بس ما تقاطعني او تسألني ده حصل ازاي، خليني اقولك إنك حفيد اقرب صديق ليا، البشمهندس عوض الشامي الله يرحمه، ويمكن ده اللي خلاني اعمل حاجة زي كده.. انا لما شوفت حالتك وفكرت في موضوع زرع المخ، ماكنتش عارف هجيبهولك منين، لحد ما افتكرت إن عندي مريض في المستشفى.. الكبد والكلى عنده حالتهم سيئة جدًا، وبصراحة كده الراجل ماكنش له حد غير ابن اخوه اللي جابه للمستشفى، ولما ابن اخوه ده عرف بحالة عمه المتأخرة وعرف كمان إنه هيحتاج مصاريف كتير وفي النهاية هيموت، كان قراره إنه ياخده من عندنا عشان يموت في بيته أرحم، لكني وقتها فكرت واستغليت الفرصة وقولت للولد إن انا هخلي عمه عندنا ومش هاخد منه فلوس، وهعمل كده كعمل خيري مني، وكمان قولتله إني هحاول معاه على قد ما اقدر، واهو لو فاق وحصلت المعجزة وقام بالسلامة، يبقى خير وبركة، ولو مافاقش ومات وده اللي كان وارد إنه يحصل، يبقى اسمنا برضه عملنا اللي علينا وماقصرناش معاه في أي حاجة، وطبعًا ابن اخوه لما سمع مني الكلام ده.. اقتنع بيه وسابه عندنا في المستشفى، بعدها انا جهزته وجهزتك للعملية، خدت مخه وحطيته في راسك عشان تعرف تعيش، وفعلًا تمت العملية وبعدها بلغت ابن اخوه إنه مات وإننا غسلناه ومش فاضل بس غير إنه يجي يستلم جثته ويدفنه، فجه الولد وخد جثة عمه ودفنها والموضوع عدى على خير وانت اتنقلك المخ عشان تفضل عايش..
لما قال لي كلامه ده كنت تايه، ماكنتش عارف ارد عليه واقوله ايه، هل ازعق فيه بسبب إنه سرق مخ أنسان تاني وزرعهولي من غير ما حد يعرف، ولا اشكره لأنه أنقذ حياتي وخلاني لسه عايش، بصراحة مابقتش لاقي رد ولا كلام، وقتها الدكتور هو اللي اتكلم وقال لي..
-انا عارف إنك مش لاقي كلام تقوله، بس انا ماكنش قدامي حل تاني، انت يا وليد زي ابني، وجدك الله يرحمه كان اقرب صاحب ليا في الدنيا، ويمكن غلاوتك عندي انت وجدك هي اللي خلتني اعمل اللي عملته ده رغم إنه ضد مبادئي، بس صدقني يا ابني.. اللي اتعمل ده في مصلحة حياتك، وصدقني كمان.. مش مهم خالص إن المخ اللي اتنقلك يبقى مخ راجل عجوز عنده ٧٥ سنة ولا شاب عنده ٢٥ سنة، المهم إنه مخ سليم.. وعشان نحافظ عليه وعلى حياتك، فانت لازم تسمع كلامي وتنفذه بالحرف؛ انت المفروض هتفضل قاعد في سريرك تلات شهور كمان، وفي خلال التلات شهور دول هتفضل لابس الجهاز اللي على راسك ده عشان بيساعد على تثبيت المخ في مكانه، وغير كده وكده بقى انت لا هينفع تمسك موبايل ولا تخرج من البيت ولا تشوف تلفزيون ولا تقابل أي حد، ده غير إنك مش ممكن تتحرك من مكانك في محيط أوضتك او الحمام اللي فيها إلا مع مرافق، والمرافق ده هيكون فرغلي الشاب اللي بيشتغل في الفيلا عندي؛ فرغلي هيفضل قاعد معاك عشان لو احتاجت اي حاجة يعملهالك، وانا هبقى اجي ابص عليك كل يوم بالليل.
لما الدكتور عبد القادر وصل لحد هنا سألته سؤال مهم اوي جه في بالي وقتها..
-طيب.. تمام، انا هسمع كلامك وهعمل كل اللي قولتلي عليه، بس انا في حاجة هتجنني، انت ازاي نقلتلي مخ واحد تاني، وانا لسه فاكر كل حياتي اللي قبل كده؟!
ابتسم الدكتور عبد القادر وجاوبني..
-كنت عارف إنك هتسأل السؤال ده، انت يا وليد ما اتنقلكش المخ بالكامل، انت اتنقل لك أجزاء منه.. الأجزاء اللي تلفت في مخك وبس، والحمد لله ماكنش من ضمن الأجزاء دي الجزء المتعلق بالذاكرة، المهم بس دلوقتي ماترهقش نفسك واسمع كلامي وخد علاجاتك في ميعادها، وانا هتلاقيني جنبك أخر كل يوم، وماتقلقش.. لو ندهت على فرغلي ومالقتهوش، هيكون أكيد بيجيب حاجة من برة او بيعمل حاجة في الفيلا عندي وبعد كده هيرجعلك، واعمل حسابك إنك من هنا ورايح هتفضل على سريرك ومش هتتواصل مع أي حد ولا هتستعمل اي حاجة غير بس جهاز الراديو اللي ممكن فرغلي يشغلهولك وهو بعيد عنك، وفي النهاية خليني اقولك حمد لله على السلامة يا بطل، هانت.. كلها تلات شهور وترجع لحياتك الطبيعية.
خلص الدكتور كلامه وسابني وخرج، كلامه اللي من بعده بدأت اتأقلم واعيش مع حياتي الجديدة اللي هفضل عايشها لمدة تلات شهور، حياة مملة ورتيبة كلها حبس وقلة حركة وألم، لكن الألم كان أمره بسيط، لأني كل ما كنت بحس بيه، كنت باخد حباية من شريط اداهولي الدكتور عبد القادر وقال لي اخد منه حباية واحدة بس عند اللزوم، وفاكر كويس إنه شدد عليا وقال لي ما اخدش اكتر من حباية، لأني لو كترت عن كده هيكون في خطر على حياتي، لكن اللي ماكنش له علاج ولا حل بقى هو الملل اللي بدأت احس بيه بعد مرور اسبوعين، واللي زاد وغطى على الملل وقلة الحركة والانعزال، هي الكوابيس اللي بقيت بشوفها كل ليلة من بعد ما فاتوا الأيام وعدوا تلات اسابيع، كوابيس غريبة كنت بشوف فيها راجل عجوز بيقرب مني وانا نايم على السرير وبيشيل الجهاز من على دماغي وبيحاول ياخد مني مخي وهو بيقولي بزعيق وبصوت عالي..
(رجعلي مخي يا حرامي.. رجعلي مخي وألا هاخده منك بالعافية)
ده غير طبعًا الهلاوس والاكتئاب، انا حرفيًا بعد ما فات عليا شهر بقيت حاسس إن انا مريض نفسي، لا بقيت طايق نفسي ولا طايق الحياة اللي انا عايشها ولا حتى طايق فرغلي ولا صوت الراديو الممل اللي ماكنش في حاجة بتسليني غيره، ولما كنت بحكي للدكتور عبد القادر وبقوله إن انا بشوف كوابيس وبشوف هلاوس وانا صاحي وإني كمان نفسيتي بقت زي الزفت من اللي بمر بيه، كان بيصبرني بأي كلام وبيقولي إن ده وضع مؤقت وإني مع الوقت هخف وهرجع لحياتي من تاني، لكن اسلوبه الكويس معايا وكلامه المعسول مادامش كتير، انا في اخر مرة لما اتكلمت معاه وقولتله إن انا محتاج اخرج او امسك موبايلي واكلم اي حد من صحابي او حتى اتابع شغل الشركة الهندسية بتاعتي، زعق فيا وقال لي إن انا باللي هعمله ده هبقى بنتحر وهو مش هيسمحلي بكده بعد كل اللي عمله عشاني..
يومها بعد ما زعق فيا وسابني قاعد بعيط زي العواجيز.. لا لا.. زي ايه بقى، انا فعلًا بقيت عجوز، لا بقيت بعرف اتحرك ولا بقيت قريب من أي حد من سني، انا اتحولت في الشهر ده من شاب عنده ٢٥ سنة، لعجوز عنده ٧٥ سنة، زيه زي صاحب المخ اللي اتزرع جوة راسي واللي بسببه بقيت حد تاني غيري، حد لا انا طايقه ولا طايق اعيش حياته، ومن عند حزني ودموعي واكتئابي كان القرار.. انا مسكت شريط البرشام اللي كنت باخد منه حباية كل كام ساعة وفضيته كله في إيدي وبلعته، بلعته وشربت وراه كوباية المايه اللي كانت جنبي على الكومودينو، وفردت جسمي وغمضت عينيا وانا ببكي لأخر مرة، انا خلاص كرهت الحياة بالشكل ده والموت بقى هو الوسيلة الوحيدة اللي ممكن تخليني مرتاح، الموت اللي حسيت إنه بيقرب مني وقت ما ابتديت اروح من الدنيا واغيب عنها.... بس في الحقيقة انا ماموتش، انا بعد فترة فوقت ولقيت نفسي برضه على سريري والدكتور عبد القادر جنبي، لكني المرة دي بقى لما فوقت، لا كان على راسي جهاز التثبيت ولا كنت حاسس بالألم اللي بحس بيه!
انا بصيت للدكتور باستغراب وقعدت على السرير وانا بقوله بغضب..
-انت أنقذت حياتي ليه، كنت سيبني اموت يا أخي، انا مش عارف اعيش الحياة دي، مش عارف اعيش حياة العواجيز.. انا ماعرفتش اعيش وانا عاجز بالشكل ده، انا عاوز اخرج و..
قاطعني وهو بيقولي بحزم..
-هتخرج.. انت تقدر تخرج من دلوقتي لو حبيت، خلاص.. اللي انا عاوزه حصل، بس قبل ما تخرج لحياتك او تتحرك، خليني احكيلك حكاية صغيرة..
انتبهتله وركزت معاه اوي وهو بيكمل كلامه وبيقولي..
-من سنين كان في اتنين شباب جيران واصحاب اوي، الاتنين دول ماكنش عندهم اخوات وماكنلهمش حد في الدنيا غير بعض، دخلوا المدرسة سوا وكبروا برضه سوا.. من ابتدائي لأعدادي لثانوي لحد ما في الجامعة اتفرقوا، واحد منهم دخل طب والتاني دخل هندسة، بس بالرغم من كُلياتهم المختلفة، إلا إنهم برضه فضلوا اصحاب واكتر من الاخوات كمان لحد ما كبروا واتجوزوا، وبرضه سكنوا جنب بعض، ومع مرور الزمن والأيام، مرات الراجل اللي كان في هندسة ده ماتت وبعدها بكام سنة ابنه ومرات ابنه، وماتبقالوش في الدنيا غير حفيده، اما بقى الراجل اللي دخل طب، فده مراته ماتت وعياله اتجوزوا وبعدوا عنه ومابقالوش حد في الدنيا غير صاحبه وجاره المهندس اللي زي ما قولتلك كان عايش مع حفيده وبيربيه لحد ما حفيده ده كبر وورث منه الشركة بتاعته وبقى له حياته الخاصة، لكن حفيده بقى كان شاب أناني ومابيفكرش غير في نفسه وبس، لما كبر وحس بذاته وخرج للدنيا، نسي جده اللي رباه واللي مع مرور السنين وكِبر سنه ومرضه، اتحول لشخص قعيد.. عجوز مالوش في الدنيا غير وحدته بعد ما حفيده خلاه مُهمش ومالوش لازمة في الدنيا، لا بقى بيقعد معاه ولا بقى بيهتم بيه ولا حتى بقى بيسمع كلامه لما يحب يقعد يدردش معاه، وعلى الناحية التانية بقى، صاحبه الدكتور انشغل في محاضراته والمستشفى بتاعته، وفضلت الحياة ماشية بالوضع ده لحد ما حالة المهندس بقت صعبة وجاله اكتئاب من الملل والعيشة لوحده، ايوة يا وليد.. المهندس اللي انا بتكلم عليه ده كان جدك عوض، والدكتور يبقى انا، والحفيد يبقى انت..
قام الدكتور عبد القادر من مكانه وكمل كلامه وهو بيتمشى في الأوضة..
-اخر مرة شوفت عوض فيها حالته كانت صعبة اوي، اشتكى لي منك ومن أهمالك له، كان بيعيط وهو بيقولي إنه عَجز ومابقاش قادر يستحمل عيشته دي، وقتها انا كنت بحضر نفسي عشان هسافر في مؤتمر برة مصر.. لكني والله وعدته إني لما ارجع هتكلم معاك، بس للأسف، انا لما رجعت جدك كان مات، أهمل في علاجه وبسبب زعله ووحدته مات، مات وانت كل اللي كان يهمك هو الشغل وحياتك واصحابك والنادي، مات لوحده بعد ما مشيت حتى الشغالين لأنك مابتحبش حد يزعجك وانت قاعد في بيتك، بعدها انا سكتت وكنت ناوي افضل ساكت لأن أي كلام كنت هقولهولك ماكنش هيبقى في منه أي فايدة، وفضلت ساكت وكاتم في قلبي حزني على صاحب عمري لحد ما الحادثة حصلتلك، وقتها شوفت فيك جدك وهو صغير، أنقذت حياتك وعملتلك اللازم وخليتك خفيت اه.. بس مش عن طريق نقل مخ، انت مخك ماكنش تالف ولا حاجة، انت جالك ارتجاج قوي ومعاه تجمع دموي اتشال بعمليات، والحمد لله بعد ما عملتلك اللي المفروض يتعمل خفيت وخرجتك على بيتك، بس وقتها جه في بالي موضوع نقل المخ ده عشان احسسك باللي جدك حس بيه.. انا عارف إن اللي عملته كان غلط لأنه عقاب قاسي، بس في الحقيقة ده اللي جه في دماغي وقتها، وزي ما توقعت.. انت ماستحملتش وقررت تنتحر، ماستحملتش الحياة لمدة شهر كراجل عجوز، وقبل ما تسأل لنفسك انا ليه قولتلك إني نقلتلك مخ حد تاني، فانا هجاوبك واقولك إني قولتلك كده عشان اوهمك مع قعادك ووحدتك إنك فعلًا عايش بمخ راجل عجوز، واديك اهو.. لا قدرت تستحمل الحياة بالشكل ده، ولا حتى حد من اصحابك اللي كنت بتهمل جدك عشانهم جه ووقف جنبك، ده حتى مجلس إدارة الشركة يا راجل ماكنوش طايقينك بسبب اسلوبك، وكل ما كانوا بيسألوني عنك، كنت بحس في صوتهم إنهم بيقولوا يارب ما يرجع بسبب عصبيته وأسلوبه معانا.
خلص الدكتور كلامه وانا منهار طبعًا وببكي غصب عني، بعد كده طلع موبايلي من جيبه واداهولي وراح فتح باب الأوضة وهو بيقولي..
-اخرج يا وليد.. اخرج وانا كمان هخرج ومش هوريك وشي تاني، انا عارف إني غلطت وانك صعب تسامحني، بس خليني اقولك إنك كنت لازم تجرب احساس عوض اللي عاش ومات لوحده، انا أوهمتك إنك لما تاخد من البرشام هتموت مع إنه مابيموتش، لكن انا كنت عارف إنك مش هتستحمل وبسبب الكوابيس والهلاوس هتفكر في الانتحار عن طريقه، لأن مافيش قدامك طريقة اسهل منه، اما بالنسبة للكوابيس والهلاوس، فدي كلها كانت إيحاء ومجرد تهيؤات لأنك كنت مقتنع إنك عايش بمخ واحد تاني، وانت في الحقيقة كنت بس بتكمل فترة علاجك اللي بعد ما الشهر عدى اقدر اقولك إنها خلصت خلاص، اخرج.. وانا كمان هخرج من حياتك خالص زي ما هخرج من الباب ده، بس ارجوا إنك تكون حسيت بأحساس صاحبي الوحيد في أيامه الأخيرة، وأرجوا كمان إنك مع الوقت تسامحني لو كان ينفع...
خلص الدكتور عبد القادر كلامه وخرج، خرج وسابني لوحدي قاعد وسط دموعي وحزني، انا بعد اللي مريت بيه بسبب الكدبة اللي كدبها عليا، وبالرغم من إنها كانت كدبة قاسية لأبعد الحدود، إلا إني عن طريقها حسيت بجدي وبأحساس كل شخص وصل لسنه، انا فجأة حسيت إن عمري زاد نص قرن بحاله وبقيت عاجز ووحيد، وساعتها فكرت في الانتحار وماقدرتش استحمل الحياة بالشكل ده، طب لما ده أحساسي، احساس جدي كان عامل ازاي؟
قعدت اتكلم مع نفسي واراجع حساباتي لفترة كبيرة، فترة رجعت بعدها لحياتي بس مش زي ما كنت، انا رجعت بشكل مختلف، بقيت شخص.. شخص اكتر حاجة بيعملها في حياته هي إنه بقى يحط نفسه مكان الشخص اللي بيتعامل ويعذره، ده غير اني بقيت مواظب على زيارة قبر جدي وعلى الصدقات اللي ماكنتش بخرجها على روحه إلا بعد اللي مريت بيه.. وفي النهاية انا اهو اتجوزت وخلفت وكمان سامحت الدكتور عبد القادر اللي اتوفى هو كمان بعد اللي عمله معايا بحوالي سنة، وحقيقي بقيت يوميًا بدعي ربنا إن زي ما انا سامحته، جدي يسامحني هو كمان على اللي عملته فيه.. الله يرحمك يا جدي ويجعل أحفادي فيما بعد مش قاسيين عليا زي ما كنت بعمل معاك في حياتك، انا أدركت غلطي اه، وعارف إنه بعد فوات الأوان، بس انا دعواتي ليك ودعواتي إنك تسامحني هتفضل ملازماني لحد أخر يوم في عمري..
تمت
محمد_شعبان
نصف_قرن

ليست هناك تعليقات