إبحث عن موضوع

قصة ليلة مع جُثة

تحب تقضي ليلة مع جُثة!.. لو حابب تعمل ده او نفسك تخوض التجربة، كمل قراية وانا اوعدك إنك انت هتقضي وهتعيش معايا ليلة من أصعب الليالي اللي مرت عليا في حياتي، او بالتحديد يعني؛ هتعيش معايا نفس الليلة اللي قضيتها وعيشتها انا وجثة في أوضة لوحدنا.. 
وقت ما حصلت الحكاية اللي هحكيهالك دي، كنت لسه متخرج من كلية الشرطة مابقاليش كتير، وحظي إني وقتها اشتغلت في قسم من أقسام واحدة من المناطق الشعبية بمحافظة الجيزة "مش هينفع اذكر إسمها لأن الحكاية حقيقية".. ومن حظي السيء بقى إن البلد في الوقت ده حرفيًا كانت مقلوبة، لأن ببساطة كده، ده الوقت اللي كان بعد ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ بشهور؛ وبسبب ده الأمن لسه ماكنش مستقر بشكل كبير، احنا كشرطة كنا بنحاول نلم الدنيا ونرجع الأمن في الشوارع زي ما كان، بس في نفس الوقت برضه، البلطجية كانوا منتشرين بشكل كبير والبلد حرفيًا كده كان فيها كل يوم مظاهرات وخناقات وحوادث سرقة وكوارث، ووسط ده كله وفي ليلة شتوية.. ليلتها جالنا بلاغ على القسم بشيء غريب.. البلاغ كان بيقول إن بعض سكان عمارة ما في المنطقة الشعبية اللي فيها القسم، شموا ريحة قذرة خارجة من شقة راجل عايش لوحده ومختفي بقاله فترة، ولما الناس خبطوا وماحدش فتحلهم، كسروا الباب ودخلوا.. ومع دخولهم اتصدموا لما لقوا الراجل قاعد على كرسي من كراسي الشقة وفي سكينة في قلبه!
اتحركت مأمورية او قوة بسيطة وانا معاها من القسم للعنوان، ومع وصولنا طبعًا لقينا زحمة كبيرة عند باب الشقة، فخلينا الناس تبعد بكل هدوء ودخلنا، ومع دخولي.. بدأت اتفحص بعيني كل شيء في الشقة.. او بمعنى اصح يعني هي ماكانتش شقة؛ كانت أوضة بحمام في الدور التالت، أوضة فيها سرير وترابيزة وكرسيين؛ كرسي فاضي وكرسي تاني قاعد عليه القتيل اللي جوة قلبه السكينة.. جثته كانت متعفنة والريحة كانت قذرة اوي بشكل لا يوصف، الدم كان مغرق هدومه، ملامحه كانت تخض بجد، بلعت ريقي وبدأت اخرج من الاشمئزاز والحالة الغريبة اللي كنت فيها عشان اركز في شغلي واستجوب الناس، وفعلًا بدأنا ناخد أقوال الناس اللي واحد منهم قال لي....
(والله يا بيه ده كان راجل وحيد وعيان وطيب.. هو مالوش عداوة مع حد، بس هو اختفى من كام يوم، ولما قلقنا عليه وخبطنا الباب، مافتحش.. فاضطرينا نكسر الباب ولقيناه زي ما حضرتك شايف كده، مُنتحر يا ولداه)
بصيت للراجل وقولتله باستغراب (منتحر!).. جاوبني بالتأكيد.. وقال لي كمان إنهم لقوا ورقة على الترابيزة مكتوب فيها بخط إيديه إنه هينتحر لأنه تعب من المرض اللي بينهش في جتته!
وفعلًا الراجل كان معاه حق، كل الناس شهدوا بوجود الورقة اللي تحفظنا عليها وبعد كده بلغنا النيابة، بس للأسف النيابة ماجتش، وده عرفته لما رئيس المأمورية وقف معايا وقال لي..
-بص يا سيادة الملازم، احنا كلمنا النيابة والمفروض إنهم هيبعتوا الطب الشرعي ووكيل نيابة عشان يعاينوا المكان وبعد كده ينقلوا الجثة، بس للأسف.. زي ما انت شايف كده، البلد مقلوبة ومافيش استقرار، هم بيقولوا إن وكيل النيابة كان بيحقق في جرايم قتل حصلت في خناقة كبيرة بين عيلتين في نفس المنطقة، وللأسف برضه ماحدش هيجي إلا مع طلوع النهار، هم قالوا إنهم هيتصرفوا خلال ساعتين، بس انا بقولك بحُكم خبرتي إن الوكيل هيجي الصبح، والمفروض إن مافيش حاجة تتشال من مكانها والأوضة تفضل تحت الحراسة لحد ما النيابة تيجي وتعاين، فعشان كده انا بكلفك انت والأمين راضي بحراسة المكان لحد ما النيابة تيجي.
اول ما قال لي كده، رديت عليه وانا ببص في الساعة..
-بس يا فندم ازاي.. الساعة ٢ ونص الصبح، يعني لسه وقت طويل على ما النهار يطلع، وبعدين يا فندم يعني هو مافيش غيري انا اللي المفروض يقف حراسة على الجثة.
اتعصب رئيس المأمورية وقال لي بكل حزم..
-جرى ايه يا سيادة الملازم، انت مش شايف الظروف اللي احنا فيها ولا ايه، وبعدين ده أمر..
وكمل كلامه وهو بينادي على الأمين راضي بصوت عالي وبيقوله..
-أمين راضي.. مشي الناس دي كلها وماتخليش حد لا يطلع ولا ينزل لحد ما المكان يتم معاينته، وخليك مع سيادة الملازم في الأوضة لحد ما النيابة تيجي ومعاها الطب الشرعي.
وخلص الريس كلامه وخد بقية القوة ومشيوا.. مشيوا بعد ما مشوا الناس وكل واحد دخل شقته، وفضلت انا والأمين راضي قاعدين في الأوضة، كنا قاعدين عشان نحرس الجثة لحد ما النيابة تيجي، ولك أن تتخيل بقى إنك يبقى مطلوب منك تقضي ليلة مع جثة وانت لسه في عز شبابك، بس هعمل ايه يعني.. ده شغلي، شغلي اللي بسببه نفذت الأمر وفضلت في مكاني وانا ببص للجثة وللمكان وانا قرفان ومشمئز، لحد ما قطع تفكيري صوت راضي وهو بيسحب الكرسي الفاضي..
-اتفضل يا باشا اتفضل.. البيه وكيل النيابة مش هيجي إلا الصبح، انا خدمة في القسم هنا بقالي سنين وحافظ الدايرة دي كويس، دايرة ماحدش مهتم بيها ولا ببيوتها ولا بأهلها.. كأنهم مش على الخريطة والله يا باشا، اقعد يا باشا اقعد.
خدت منه الكرسي وقعدت وانا بشكره، بس بمجرد ما قعدت عنيا ابتدت تتفحص المكان بعمق وبتركيز اكتر مع التفاصيل؛ الأوضة كانت مش مترتبة، ريحتها وحشة اوي بسبب الجثة اللي فيها وكمان بسبب الحمام اللي كان ورا الكرسي اللي عليه الجثة..
-يالهوي يا باشا.. انا سجايري خلصت.
لما راضي قال لي كده بصيت ناحيته، كان ماسك علبة سجاير فاضية وبيشاورلي بيها وهو بيكمل كلامه بابتسامة مصطنعة..
-هه.. لا مؤاخذة بقى يا باشا، انا هنزل اشتري علبة سجاير بدل اللي خلصت واجيب لي كوباية قهوة من أي قهوة من قهاوي المنطقة، وبالمرة اجيب لسيادتك انت كمان قهوة عشان تصحصح كده، لسه الليل طويل.
قمت وقفت لما قال لي كده ورديت عليه بعصبية..
-انت بتقول ايه ياعم انت.. انت عاوز تسيبني لوحدي مع الجثة دي وتنزل!
ضحك راضي وهو بيشاور على الجثة بنفس ضحكته المصطنعة البايخة..
-وايه اللي فيها يعني يا باشا، ما انت لسه قايل بعضمة لسانك اهو.. مع الجثة، يعني لا مع مجرم او مع سفاح او حرامي او بلطجي، دي جثة يا باشا، يعني صاحبها زمان روحه دلوقتي عند اللي خالقها وبتتحاسب كمان، وبعدين ده جتته زي ما انت شايفها اهي، لا بتصد ولا بترد.. هو سيادتك هتخاف من جثة ولا ايه يا باشا؟!
بلعت ريقي ورديت عليه بشجاعة عشان ابان قوي..
-لا لا.. اخاف ايه، انا مابخافش إلا من رب العالمين.
مسك راضي علبة السجاير وضغط عليها بإيده ومشي ناحية الباب ورماها على الأرض وهو بيقولي..
-ونعم بالله يا باشا.. ونعم بالله، حيث كده بقى، استأذنك انا ونصاية وراجعلك.
هزيت له راسي بشجاعة مصطنعة، فخرج راضي من الأوضة وسابني قاعد لوحدي مع الجثة، كنت قاعد على الكرسي والميت كان قصادي بالظبط، قعدت بحذر وبصيت له بتركيز اكتر.. كان راجل تقريبًا في أواخر الخمسينات او في بداية الستينات من عمره، راسه كانت راجعة لورا وايديه كانت محطوطة على رجله، كرسي الأنتريه الكبير اللي كان قاعد عليه واللي كان واضح إنه شاريه من حد او واخده كهدية يعني، لأن شكله الفخم لا يتناسب خالص مع شكل الأوضة، الكرسي ده كان متين وكبير كفاية إنه يحافظ على جثة الراجل من الوقوع، بس فجأة وانا مركز معاه ومع البنطلون القماش والقميص البسيط اللي لابسهم؛ سمعت منه صوت غريب، بالتحديد الصوت كان خارج من عند راسه، الصوت كان أشبه بالأنين او بصوت تزييق مصحوب بآنين!
رفعت عيني وبصيت على وشه وساعتها اتصدمت لما لقيته بيبص لي بتركيز اوي، حسيت للحظة كده إنه مش ميت، ده شخص صاحي وقاعد قصادي، والأغرب من ده كله بقى إني حسيت من نظرة عينيه إنه بيبص لي بتركيز اوي وكأنه عاوز يقولي حاجة او يتكلم!
الخوف بصراحة اتمكن مني، فاضطريت اخد الكرسي واتنقل من مكاني، قمت وقفت ومسكت الكرسي وانا بحاول الاقي اي مكان بعيد عن الكرسي اللي عليه الجثة، بس مافيش.. الأوضة صغيرة اوي، والجثة موجودة في مكان صعب، مكان يخليك لو قعدت في أي حتة او ركن منها هتشوفه قصادك بالظبط، إلا إذا بقى روحت قعدت في الحمام اللي وراه، وده طبعًا مستحيل، وعشان كده قررت إني الف الكرسي واخلي وشي للشباك اللي كان في ضهري وانا قاعد في الأول.
لفيت الكرسي وقعدت وانا مدي ضهري للمنتحر ووشي للشباك، الجو كان برد اوي وريحة المكان مع الرهبة والخوف خلوني قاعد مرتبك وعمال اهز في رجليا الاتنين بسرعة وانا باصص للعمارة اللي قصادي، في محاولة مني يعني للتماسك.. لكني فجأة حسيت برعب وبخوف وثبتت رجليا ووقفت هز فيهم لما سمعت من ورايا صوت خرفشة!
هو ماكنش صوت خرفشة اوي، هو كان صوت عامل بالظبط زي صوت احتكاك حاجة في الأرض، وكأن الراجل الميت اللي ورايا، إيديه نزلت على الأرض وعمالة تروح وتيجي في حركة منتظمة نتج عنها الصوت ده!
ثواني من القلق والخوف ومن دقات قلبي المرتفعة، استجمعت بعدهم شتات نفسي وقمت وقفت وبدأت الف بالراحة وانا بقرا كل اللي انا حافظه من قرأن، بس أول ما لفيت وبصيت للراجل برقت... برقت لأني فعلًا لقيت إيديه الاتنين واقعين على الأرض وعمالين يتحركوا بحركة منتظمة، كانت صوابعه بتحتك في الأرض وبسبب احتكاكها ده كنت سامع نفس الصوت المقلق اللي خلاني لفيت، بصيت له لثواني بذهول وبتركيز، وقبل ما اقول او اعمل اي حاجة، لفت نظري حركة او خيال في الحمام اللي وراه، فبصيت بسرعة ناحية الحمام وطبعًا مالقتش حاجة، بس لأني كنت خايف وشكل الراجل كان مخليني طول ما انا واقف قدامه مش عارف اركز غير معاه، فانا اضطريت بسرعة ارجع وابصله من تاني عشان اتصدم لتاني مرة لما لقيت إيديه رجعوا لمكانهم تاني على رجله، او بالتحديد زي ماكانوا على أردافه!... يتبع
(ده الجزء الأول من قصة ليلة مع جثة وهي قصة مأخوذة عن أحداث حقيقية.
#محمد_شعبان

ليلة مع جثة
٢ 
لفت نظري حركة او خيال في الحمام اللي وراه، فبصيت بسرعة ناحية الحمام وطبعًا مالقتش حاجة، بس لأني كنت خايف وشكل الراجل كان مخليني طول ما انا واقف قدامه مش عارف اركز غير معاه، فانا اضطريت بسرعة ارجع وابصله من تاني عشان اتصدم لتاني مرة لما لقيت إيديه رجعوا لمكانهم تاني على رجله، او بالتحديد زي ماكانوا على أردافه!
الصدمة والقلق والخوف والاشمئزاز والرعب، كل دي أحاسيس خلتني طلعت موبايلي بسرعة واتصلت براضي اللي أول مارد عليا قلتله بعصبية..
-انت بتعمل ايه كل ده تحت، انت كل ده بتجيب سجاير؟
كنت بكلمه وانا عنيا مركزة مع الراجل، وكأني خايف ابعد عينيا عنه لا يتحرك او يعمل اي حاجة غريبة..
-لا يا باشا سجاير ايه اللي أخرتني.. انا جيبت السجاير خلاص وبجيب القهوة اهو وجاي.. خمس دقايق وابقى عندك، والله ما هتأخر يا باش...
واتقطع كلام راضي لما الليلة كملت بأن تليفوني فصل، اه ماهو ده اللي كان ناقص، انا عارف إنها ليلة مش فايتة، وحتى لو فاتت.. فهي هتفوت ببطء ومش هتخلص على خير.
فضلت اسب والعن في التليفون وفي راضي وفي اللي قدم البلاغ، بس كل ده كان بيحصل وانا باصص للراجل ومركز معاه، لكني في ثانية ماخوفتش من الراجل ولا من شكله.. انا خوفت من حاجة لما سمعت من ورايا، او بالتحديد يعني من ناحية السرير اللي كان تحت الشباك، صوت حركة.. وكأن حد نايم وعمال يتقلب على السرير!
لحظتها مابقتش عارف اعمل ايه، هل ابص ورايا واشوف مين اللي على السرير، ولا افضل مركز مع الراجل اللي انا متأكد اني لو بصيت لأي مكان تاني ورجعت بصيتله، أكيد هيتحرك او هيعمل مصيبة، ماكنتش عارف انا وقتها بفكر كده ازاي.. هو الراجل عايش اصلًا عشان يعمل او مايعملش، انا مش لازم اخاف.. وبعدين هو انا لو هخاف، هخاف من ميت لا بيأذي ولا بيتحرك، بس لأ.. ده بيتحرك، ايوة انا شفت إيديه اتحركوا من شوية، بس لا لا.. أكيد دي تهيؤات، لا لا لا.. مش تهيؤات.. انا متاكد ان انا سمعت وشفت إيديه لما نزلوا واترفعوا تاني لوحدهم...
لكن بسرعة قطع تفكيري وكلامي بيني وبين نفسي، صوت الشباك وهو بيترزع، فبصيت بسرعة ناحية الشباك غصب عني عشان في اللحظة دي ومع لفتي، نور الأوضة كله ينطفي.. او بمعنى أوضح، يتقطع....
سكوت، صمت، ضلمة، ثواني من الترقب وانا باصص ناحية الشباك، عدوا عليا سنين، لفيت بعدهم بالراحة وبصيت ناحية الحمام اللي انتبهت لنوره، الحمام بس هو اللي كان منور على عكس كل الأوضة اللي النور اتقطع فيها، بس الأبشع والأفظع من ده كله بقى كان أحساسي بأن جسمي متكتف ولساني معقود وتفكيري واقف، انا بس كنت مُتفرج او مُشاهد اللي بيحصل قصاد الحمام.. ايوة، انا شُفت قصاد الحمام اتنين رجالة واقفين، كان واحد منهم هو نفس الراجل الميت.. واللي بالمناسبة يعني كان لسه موجود زي ماهو على الكرسي، وقصاده كان واحد تاني شبهه بس عنده شعر، اه ما انا نسيت اقولك إن الميت كان اصلع، بس مش ده المهم.. المهم إن الراجل بدأ يتكلم بحزن وهو بيبص للراجل التاني اللي قصاده..
-طب قولي اعمل ايه طيب.. انا المرض بينهش في جسمي وده شيء غصب عني، طب بص.. انا مستعد اعمل اي حاجة بس تديني فلوس، مستعد انزل اشتغل عندك وامسحلك بلاط المحل، بس ابوس إيدك اديني أي فلوس عشان اروح اخد جلسة العلاج يا اخويا.
لكن دموع الراجل وكسرته، ماهزوش شعرة في اللي كان واقف قصاده، بل بالعكس.. ده رد عليه بكل جبروت وعجرفة..
-بطل بقى شغل الشحاتة والتسول ده، الناس كلت وشي.. انت بتستغل مرضك وبتشحت من الناس فلوس ومصغرني وسطهم، وكل ده مش مكفيك يا أخي.. لأ، ده انت كمان بتشحت مني ومفكر ايه بقى.. مفكر انك هتصعب عليا وهطلعلك قرشين زي الغلابة اللي بتضحك عليهم، لا يا ابن امي وابويا، انا مش عبيط ولا بريالة عشان اديك فلوس وتروح تشتري بيهم ترمادول.
اتعصب الراجل وقال له بحزن اكبر..
-وانا كنت بتنيل باخده ليه يعني.. مش عشان يسكن لي الألم بدل الجلسات اللي انا مش قادر على تمنها وبمشي فيها على سطر وبسيب سطرين، يا أخي انت ايه.. مابتحسش، اقسملك بالله انا كل ده غصب عني، مش ذنبي اني بقيت مريض سرطان، ولا ذنبي إني اتولدت لقيت نفسي من صغري جسمي ضعيف ومش قادر على الشغل.
زقه الراجل المتعجرف ده وخرج من المشهد وراح ناحية باب الأوضة اللي سمعت صوته وهو بيترزع بكل قوة، ومع رزعة الباب النور رجع من تاني عشان اشوف قصادي مشهد غريب.. انا كنت واقف في نفس الأوضة وقصادي كان قاعد على نفس الكرسي نفس الراجل الاصلع بس ماكنش ميت ولا كان في صدره السكينة اللي منتحر بيها، هو كان عايش وقاعد على الكرسي وباصص ناحية الشباك وبيقول بصوت عالي وهو بيعيط..
(يارب.. يارب انا خلاص مابقتش قادر، انا من يوم ما وعيت على الدنيا وانا عيان وجسمي ضعيف، يعني لا قدرت اشتغل ولا اهلي الغلابة قدروا يخلوني اكمل تعليمي، انا مش ذنبي يارب.. مش ذنبي اني طلعت لقيت اخويا ربنا كارمه من شغله وفاتح محل وعنده بيت وذرية، وفي نفس الوقت بخيل عليا، وانا حالي اهو زي ما انت شايف.. عايش في أوضة ومش لاقي حتى حق علاجي.. انا مش ذنبي يارب إني بقيت باخد ترامادول عشان يسكن لي ألم المرض اللي بقى بينهش في جتتي وانا مش قادر على تمن جلسات علاجه ولا حتى عارف اتعالج منه بالمجان لأني ماليش واسطة ومضطر استنى دوري في العلاج على نفقة الدولة، يارب.. يارب انت اللي عالم بيا وبحالي وبالألم اللي انا حاسس بيه، انت اللي عالم وعارف كويس إني لو انتحرت هبقى بكده بريح نفسي وبريح الناس اللي كل يوم والتاني بستلف منهم لحد ما زهقوا مني وبقوا بيقولوا عليا متسول، وكمان هريح اخويا اللي بقى مستتقل وجودي في الدنيا وبقى هو كمان بيقول عني زيهم.. متسول وشحات وعالة)
وبعد ما الراجل قال كده، قام من مكانه ببطء شديد، مشي كام خطوة بالعافية ومسك ورقة كانت على الترابيزة وقلم، وكتب الكلام اللي كان مكتوب على الورقة اللي شوفتها وقت المعاينة الأولية، وبعد كده مسك السكينة اللي كانت جنب الورقة وراح قعد مكانه تاني وضرب السكينة بكل قوة في صدره.. ومع صوت السكينة وهي بتخترق لحمه، النور اتقطع من تاني، لكن مع قطعته المرة دي حسيت ان جسمي اتفك من التكتيفة او من الشلل اللي كنت حاسس بيه، وكمان لساني اتفك وبقيت قادر اتكلم.. وقتها بقى ماحستش بنفسي إلا وانا بخرج جري من الأوضة وبقعد على السلم، السلم اللي بمجرد ما خرجت وقعدت عليه، اكتشفت إن فعلًا النور مقطوع في العمارة كلها، وده شيء مش غريب يعني لأن الكهربا بقت تتقطع كتير في الفترة دي، بس حتى لما النور رجع، انا فضلت برضه قاعد على السلم ومادخلتش لحد ما الأمين راضي رجع وبص لي باستغراب وانا قاعد على الأرض..
-ايه يا باشا.. ايه اللي مقعدك على السلم بالميري كده؟!
رفعت راسي وبصيتله بقلق وانا مش قادر اتمالك أعصابي..
-انا مش هدخل تاني.. مش هدخل ولا حتى هبص على جثة الراجل ده تاني، ونصيحة مني، خليك قاعد جنبي لحد ما النيابة تيجي.
اداني راضي القهوة وطبعًا لما سألني عن اللي خلاني اقوله كده، حكيتله على كل حاجة حصلت معايا جوة، وماكنش غريب بالنسبة لي إنه يصدقني.. ومش بس يصدقني، ده كمان قال لي إن الأموات اه ساكتين، لكنهم اوقات بيتكلموا وبيخلوا العايشين يشوفوا حاجات حصلت في حياتهم، وده بيبقى عشان يوصلوا لنا رسايل معينة او يورونا حاجة مؤلمة في حياتهم...
فضلت ارغي انا وراضي عن الأموات وعن شغله من زمان في المنطقة وعن إنه شاف حالات انتحار كتير، وفضلنا نضيع في الوقت لحد ما النيابة جت وعاينت المكان وخدوا الجثة، والمدهش والغريب بقى إن بعد كده ومن خلال التحقيقات، عرفت إن الراجل ده كان مريض فعلًا وحالته المادية كانت شبه معدومة لأنه ماكنش بيقدر يشتغل بسبب مرضه، وكمان عرفت إن اخوه راجل مقتدر ومعاه فلوس وماكنش بيساعده بسبب إنه راجل بخيل، ومش كده وبس.. دي الأوضة اللي المنتحر كان عايش فيها، كانوا أهالي المنطقة بيلموا له حق إيجارها وهم كمان اللي جابوا له عفشها وجمعوه مع بعض من بيوتهم، وده فسرلي شكل الكرسي الفخم اللي كان قاعد عليه.. اكيد حد كان مدهوله من عنده زي بقية العفش، وكمان اللي عرفته من التحقيقات، فسرلي بشكل كامل سبب انتحاره بالشكل ده، بس الأهم من ده كله بقى إنه فسرلي حاجة مهمة اوي في نفس البشرية، ألا وهي الضعف.. احنا ضعاف اوي، ضعاف لدرجة إننا عاملين زي فرع الشجرة اللي محتاج حد يسنده عشان يفضل عايش ومايقعش.. بس تعرف يا صديقي إن التجربة ماكانتش بالبساطة اللي انت قريتها دي، التجربة حقيقي كانت مرعبة ومفزعة لأني عيشتها بجد، ومهما كتبت او قلت.. فانا مستحيل اقدر اوصفلك احساسي بالخوف والرعب يومها، او احساسي بالتعب والأرهاق بعدها بسبب قلة النوم والكوابيس اللي بقت تقريبًا ملازماني لمدة ٣ أيام.. وفي الحقيقة انا مريت بعد كده بحالة نفسية سيئة جدًا ماخرجنيش منها غير انشغالي مع شغلي ومن بعده الجواز، بس انا اهو.. افتكرت الحكاية بعد سنين وحكتهالك لعلها تكون عظة او سبب في إن حد مايبخلش على أي حد بمساعدة، ولحد هنا اقدر اقولك إن جايز جدًا حكايتي دي تكون هي الرسالة اللي الراجل كان قاصد يوصلها لما خلاني اشوف معاناته قبل ما يموت، اه.. ما انت اكيد لما هتقرا هتدعيله بالرحمة وهتفهم وهتقتنع بأنك بمساعدتك لمريض او محتاج، حقيقي هتبقى بتمنع شر كبير، او جايز كمان تكون سبب في إنقاذ حياة بني أدم، وفي النهاية حابب اوضحلك وافكرك إني ماقولتش اسمي ولا أسم المنتحر ولا حتى ذكرت اسم المنطقة لأن القصة حصلت بجد، وسواء انت صدقتها او لأ.. فده مش هيغير من الواقع في أي شيء، الراجل خلاص مات وربنا وحده هو اللي هيفصل في موضوع انتحاره ده، ماهو أصل ربك رب قلوب ونوايا، وحقيقي انا مش بحكيلك عشان تجادل وتقول لي هو مات كافر وماصبرش على الابتلاء ولا يجوز عليه الرحمة.. كل ده كلام انا عارفه ومتأكد منه وعارف كمان إنه صح ومظبوط، لكن انا مش بحكيلك الحكاية عشان كده ولا بحكيلك عشان ندخل في نقطة جدال... انا بحكيلك عشان الليلة دي واللي حصل فيها كان لازم يتعرف لأنها من أصعب الليالي اللي مرت عليا في حياتي، وكمان بحكيها عشان تدعيله بالرحمة وعشان انت نفسك ترحم الناس زي اللي خلقك ما بيرحم عبيده و يغفرلهم
# محمد شعبان

ليست هناك تعليقات