إبحث عن موضوع

الولد ذو الكيس الورقي

لمَّا كان عُمري بين الخمس والتمن سنوات، كُنت عايشة مع عمتي وأولادها الإتنين، في بيت في منطقة نائية، ولاد عمتي فانيا وفلين اللي كان عندهم 16 و18 سنة مكانوش حابين إن بنت عُمرها خمس سنوات تخرج معاهم أو حتى تقضي الوقت معاهم، ودا كان معناه إني لازم ألاقي حاجة أعملها بعيد عنهم وعن عمتي لو حابَّة أقضي وقت لطيف

البيت كان مُلحَق فيه حظيرة صُغيَّرة على حدود غابة واسعة، عشان كدا كان عندي حاجات كتير أوي مُمكِن أستكشفها بحثًا عن التسلية والمُتعَة، أقرب بيت لينا كان على بُعد حوالي ربع ساعة تقريبًا، فلأ.. المكان مكانش مهجور ونائي للدرجة دي، بس بالنسبة لطفلة عُمرها خمس سنوات كان المكان بعيد ومُخيف

اخترعت لعبة اسمها (مملكة الشجر) بلبس فيها تاج معمول من الورود عمتي كانت عاملاه عشاني، وبجري بين الشجر وأنا بضحَك

في يوم صيف مُشمِس قابلت إيدين

كُنت بتسلَّق صخرة ضخمة، على بُعد خطوات من البيت، لمَّا شُفته، كان مُختبئ وسط مجموعة شجيرات، بس كُنت عارفة إنه طفل، حسيت بالتوتُّر، عمتي كانت دايمًا تكلمني عن خطورة الكلام مع الغرباء، بس أنا فضولي كان أقوى مني، مشيت ببطء لحَد ما قربت من الشجيرات

قُلت: " هاي "

وبصوت متوتِّر رد عليَّا: " هاي "

حاولت ألف ورا الشجيرات عشان أشوفه بشكل أوضَح، بس هو كان مُختبئ كويس جدًا، كُنت قادرة أشوف رجليه الحافية، وجزء من التيشيرت بتاعه

سألته: " إنت تايه؟ "

دي كانت أول حاجة جت في بالي، أصل أنا عُمري ما شُفت طفل تاني غيري في الغابات، والجيران بعيد شوية عننا، فمُستحيل أي طفل ييجي هنا

رد عليَّا: " لا "

بصيت ورايا وكُنت قادرة أشوف باب البيت بتاع عمتي

سألته: " تحب تلعب معايا؟ "

" ماشي "

دي كانت إجابته وهو بيطلَع من مخبئه وبيُقف أدامي، وأول ما شُفته شهقت

كان طولي تقريبًا، بس إيديه كانت قذرة جدًا كأنه كان بيلعَب في الطين، بس دي مكانتش الحاجة اللي صدمتني، الصدمة بالنسبة لي إنه كان لابس كيس ورقي في دماغه

الكيس الورقي مغطي وشه ورقبته بالكامِل، وفاتح مكان لثُقبين أدام عينيه عشان يقدر يشوف من خلالهم، أنا مكُنتش قادرة أشوف ملامح أو تفاصيل وشه

قال: " أنا اسمي إيدين "

كُنت باصَّة ناحيته بدهشة، مستنياه يشيل الكيس الورقي دا من على راسه، بس هو معملش كدا

سألته: " إنت ليه لابس كيس ورقي على راسك؟ "

رد على سؤالي بسؤال: " اسمك إيه؟ "

" أماندا، إنت ليه لابس كيس ورقي على راسك؟ "

هز كتفه وهو بيقول: " مُضطَر "

سألته: " ليه؟ "

قال بحُزن: " ماما وبابا بيقولوا إني لازم ألبسُه "

وقفنا في صمت للحظات

في النهاية قال وهو بيشاوِر على راسي: " تاج لطيف "

ابتسمت وأنا بقوله: " شكرًا، عمتي اللي عاملاه عشاني "

" عمتك؟ "

شاورت على البيت اللي ورايا وأنا بقوله: " آه، أنا عايشة معاها في البيت اللي ورا دا "

سألني: " هو إنتي مش عايشة مع والدِك ووالدِتك؟ "

هزيت راسي

سألني: " طيب ليه؟ "

قُلتله بحُزن: " عشان ماتوا "

" أنا آسف "

سألته: " ها.. تحب تلعَب معايا؟ "

هز راسه بالموافقة، بدأت أشرَح له قواعِد اللعبة اللي أنا اخترعتها، ولمُدة ساعة كاملة بعدها كُنا بنلعَب سوا، في النهاية قال: " أنا لازم أروَّح دلوقتي "

سألته: " إنت عايش فين؟ "

قال وهو بيشاوِر ناحية الغابة: " هناك "

سألته بدهشة: " هو فيه بيوت هناك؟ "

هز راسه وهو بيقول: " آه.. فيه بيوت كتير "

حسيت بالدهشة، قُلتله: " بس عمتي بتقول إن مفيش بيوت هناك "

هز كتفه وهو بيسيبني وبيمشي ناحية الغابة، قال من غير ما يبُصلي: " باي يا أماندا "

ابتسمت وأنا بقوله: " باي يا إيدين "

.

الليلة دي وإحنا بنتعشى حكيت لعمتي عن إيدين، عرفت بعدين إنها فكرت إيدين صديقي الخيالي اللي مش موجود، عشان كدا مكانتش مُهتمّة تنصحني آخد بالي منه

وإيدين مظهرش تاني غير بعدها بأسبوع

كُنت واقفة بتفرَّج على بعض الزهور لمَّا سمعته بينادي عليَّا: " أماندا! "

سألني وهو مُبتسِم: " تحبي نلعَب سوا تاني؟ "

سألته بدهشة: " هو إنت كُنت فين؟ "

قال ببساطة: " في البيت، مكُنتش قادر آجي عشان ألعب "

" ماشي "

قضينا الساعات القُليّلة اللي بعد كدا وإحنا بنلعَب سوا، في النهاية إيدين سألني: " تحبي تيجي تشوفي بيتي؟ "

بصيت ناحية بيت عمتي، هي في الشُغل وهتتأخّر شوية النهاردة، وأكيد ولاد عمتي مش عايزين يقعدوا معايا، كُلهم مشغولين ومحدش هيحس بغيابي

قُلتله: " ماشي، بس مش هينفع نطوّل، أنا مقولتش لعمتي إني هروح في حتة "

مشيت وراه وسط الغابات، لحَد ما وصلنا لمنطقة فيها بحيرة أول مرة أشوفها، عُمري ما وصلت للعُمق دا من الغابة، كُنت بخاف أبعِد عن البيت، وصلنا لمنطقة وسط الصخور كان فيها كذا بيت، واحد منهم كان بيت إيدين، مشيت وراه وهو بيفتَح الباب وبيدخُل ناحية المطبخ وهو بينادي على والدته: " ماما؟ "

سمعت صوتها بترُد عليه من جوا البيت: " أنا هنا.. في غرفة المعيشة "

مشيت وراه في البيت، كان بيت فاضي تقريبًا، المطبخ فيه ترابيزة خشب قديمة، مفيش كراسي ولا حاجة، مفيش صور متعلّقة على الحيطان، سجادة واحدة قذرة مفروشة على أرض البيت

الغريب إن والدته هي كمان كانت لابسة كيس ورقي فوق راسها، بس كيس أكبر من كيس ابنها، برضه فيه فتحتين للعينين بنفس الطريقة، أول ما شافتني قالت بدهشة: " مين دي؟ "

إيدين قال بسُرعة: " دي أماندا، عايشة برا الغابة "

حسيت بالإحراج والتوتُّر بسبب طريقتها، سألتني بقسوة: " والدتك عارفة إنك هنا؟ "

قُلت بسُرعة: " أنا عايشة مع عمتي "

قالت بضيق: " مش مُهِم، عمتك تعرف إنك هنا؟ "

هزيت راسي بالنفي

بصّت لإيدين وهي بتقول: " إيدين، مُمكِن ترجّع أماندا لبيتها! "

حاول يعترِض: " لكن.. "

صرخت بغضب: " حالًا "

خرجت من البيت، مشيت ورا إيدين لحَد ما خرجنا من الغابة، كان فيه شوية أولاد مُختبئين ورا الشجر وكُلهم لابسين أقنعة ورقية فوق راسهم

وقفت مكاني وأنا خايفة

إيدين سألني: " إيه المُشكلة؟ "

همست له بخوف: " بيبصوا عليّا "

ابتسم وهو بيقول: " عشان مش لابسة قناع ورقي "

بدأوا يقربوا مننا ببطء، ولد منهم سأل إيدين: " مين صاحبتك؟ "

إيدين قاله بقسوة: " أماندا "

ولد تاني سأله: " وأماندا دي منين؟ "

قال بقلق: " من برا الغابات "

بنت بفُستان قذر مقطّع سألته: " هي ليه مش لابسة كيس ورقي؟ "

ولد تاني قال بصوت عالي: " آه، فين الكيس بتاعها؟ "

ولد منهم قال وهو بيطلّع كيس من ورا ضهره: " كيس فاضي أهو "

واحد كمان صرخ: " امسكوها "

بدأت أجري ناحية بيت عمتي بخوف بدون ما أستنى إيدين، كُنت سامعاهم بيصرخوا من ورايا

" هاتوها "

" لبسوها الكيس "

" مش هنسيبك يا أماندا "

كُنت بجري زي المجنونة، الشمس بتغيب والظلام بيسيطر على كُل حاجة، الغيوم مغطيّة القمر، فضلت أجري فترة طويلة، مش عارفة إزاي ولا ليه

كُنت سامعاهم بيصرخوا وهُمّا بيجروا ورايا، عشان كدا كُنت بجري بخوف، موقفتش لحَد ما دخلت من باب البيت الخلفي وقفلت الباب ورايا بسُرعة

من جوا البيت سمعت عمتي بتقول بخوف: " أماندا! "

في وسط البيت كانت عمتي واقفة وسط شوية ظُبّاط شُرطة، حضنتني وهي بتعيّط، وسألتني من بين دموعها: " كُنتي فين؟ إنتي تُهتي؟ "

هزيت راسي وأنا بقولها: " لأ.. كُنت في بيت إيدين "

سألتني بحيرة: " إيدين مين؟ "

قُلتلها وأنا بعيّط بخوف: " صاحبي، اللي عايش في الغابات، أصحابه كانوا عايزين يحطوا كيس ورقي على دماغي، هربت منهم وجيت هنا جري "

مش فاكرة كتير عن اللي حصل بعد كدا، لكن فاكرة إن كُل الناس كانت رافضة تتكلّم معايا عن اللي حَصَل، بس عمتي منعتني من اللعب برا البيت تاني، وطبعًا مشُفتش إيدين تاني في حياتي

.

بعدها بفترة اضطريت أسافر عشان أدخُل الجامعة في ولاية بعيدة، من كام يوم عمتي ماتِت، رجعت تاني للبيت عشان أكون جنب فانيا وفلين في وقت زي دا، في نهاية اليوم سألت فلين: " فاكِر لمَّا أنا تُهت في الغابة في مرة؟ "

ابتسم وهو بيقول: " آه فاكِر، وقتها ماما فكرت إتخطفتي وإتصلت بالشُرطة "

سألته باهتمام: " محدش يعرف إيه اللي حصل لإيدين؟ "

سألني بدهشة: " إيدين مين؟ "

" إيدين الولد اللي مشيت وراه في الغابة، اللي كان بيلبِس الكيس الورقي في راسه "

" إنتي بتقولي إيه؟ مكانش فيه وجود لأي ولد "

" لأ، كان موجود، الولد اللي مشيت وراه لحَد بيته وسط الغابة "

إتنفس بعُمق وهو بيقول: " دا الكلام اللي إنتي قُلتيه للشُرطة فعلًا، ورجال الشُرطة دخلوا الغابة وفتشوها كويس أوي بس ملقوش أي بيوت، كُل اللي لقوه كان الخندق بس "

سألته: " خندق؟ خندق إيه؟ "

ضحك وهو بيقول: " صحيح، ماما قالت لنا بلاش نقولك على الموضوع دا بما إنك كُنتي صُغيَّرة، بس لمّا الشُرطة دخلت تدوّر في الغابة لقوا خندق مليان جُثث، كُل جُثة منهم كانت بدون راس، وجنبها كيس ورقي جواه الراس المقطوعة، وكُل كيس مكتوب عليه اسم الضحية اللي راسها إتقطعِت، بس ملقوش القاتِل أبدًا لحَد دلوقتي "

.

.

ليست هناك تعليقات