إبحث عن موضوع

قصة بركة

خلصت شغل في مكتب المحاماه اللي بشتغل فيه ورَوحت على البيت، كنت تعبان وهلكان اوي لأنِ يومها كان عندي شغل كتير، مابين شغل في المحاكم الصبح، وشغل في المكتب بالليل، لكني يومها اول ما روحت لقيت سارة مراتي اللي كانت قاعدة قصاد الباب بتبص لي من فوق لتحت بقرف، فدخلت من الباب وقولتلها وانا بقلع الجزمة..
-يا فتاح يا عليك يا رزاق يا كريم، ربنا يستر، شكلنا داخلين على خناقة.
أول ما قولت كده، قامت وقفت وقالتلي بصوت عالي وهي لسه بتبص لي بقرف..
-اهلًا يا استاذ مصطفى، أيه اللي أخرك للساعة دي؟
بلعت ريقي ورديت عليها بضيق..
-كنت في الجونة بتفسح، روحت من بدري قضيت يوم هناك ورجعت صد رد.
طبعًا لما سمعت مني اللي قولته ده، قربت مني وقالتلي بزعيق..
-أما إنك بني أدم ماعندكش دم صحيح، بقى سايبني بهري وبَنكُت في نفسي، وكمان بتهزر.. انا يا بيه ماقصدش اسألك كنت فين، انا اقصد انت ايه اللي أخرك للساعة دي في المكتب، ولا انت فالح بس تشوف شغلك بضمير وتيجي هلكان وتتخمد لحد الصبح زي القتيل، وفي الأخر كل ده عشان ايه.. عشان ملاليم بتاخدهم من المحامي اللي بتشتغل عنده؟
اتعصبت بصراحة ورديت عليها بزعيق لأول مرة من وقت ما اتجوزنا من سنة ونص تقريبًا، كنت ازعقهولها..
-يعني انتي عاوزة ايه يا سارة، اسيب الشغل في المكتب واروح اشتغل صبي مكيانيكي يعني عشان ترتاحي؟!
-لا يا اخويا.. بس قَلب عيشك، يأما تخليه يزودلك المرتب يأما تعمل اللي المحامي التاني قال لك عليه.. انا خلاص زهقت وجيبت أخري من العيشة الضيقة اللي احنا عايشينها دي، انت بتشتغل بالساعات وفي الأخر بتجيب ملاليم.. ملاليم مابتقضيش مصاريفنا ولا حتى مخليانا عارفين نروح لدكتور عِدل عشان يقولنا موضوع الخلفة ده مين السبب في إنه ماتمش لحد دلوقتي.
رجعت تاني كام خطوة ناحية الباب وانا برد عليها..
-يووه.. انا قرفت، كل يوم اللي هنقلبه نعيده واللي هنعيده نزيده، ما قولتلك اصبري وكلها كام شهر وهاخد خبرة وهفتح مكتب لوحدي، ولا انتي عاوزاني اطلب من الراجل زيادة وانا لسه يعتبر بتدرب وباخد خبرة من شغلي معاه، ولا عاوزاني يعني اسمع كلام المحامي المنافس له وابعتله شغلنا على قضية مهمة وكبيرة زي دي، وكل ده في مقابل ايه، شوية فلوس.. عاوزاني عشان الفلوس يا أما اترفد من شغلي، يا أما ابيع ضميري والراجل اللي انا بشتغل معاه؟.. ده اللي هيريحك يعني؟.. طب لو ده اللي هيريحك بقى فانا مش هعمله، وهفضل كده زي ما انا.
قربت مني اكتر وعَلت صوتها اكتر واكتر..
-حلو اووي.. يبقى تطلقني، انا مش هستحمل اعيش مع واحد فقري زيك.
استغفرت ربنا ومسكت نفسي عنها بالعافية، لبست جزمتي تاني وخرجت من الشقة وانا بقولها..
-انا هسيبلك الشقة كلها وهغور في ستين داهية، انا اللي زهقت مش انتي.
قولتلها كده ورزعت الباب ونزلت... نزلت من العمارة وفضلت اتمشى في الشوارع وانا مش عارف رجلي مودياني على فين، الخنقة والضيقة اللي كنت فيهم ساقوني لحد جامع السيدة زينب اللي اتعودت ازوره مع ابويا من وانا عيل صغير، وقفت قصاد المسجد وانا عنيا بتدمع ورفَعت إيدي للسما ودعيت ربنا..
(يارب.. انت عارف إن انا مش خاين، وعارف كمان إن انا بجاهد نفسي وراضي بعيشتي دي عشان في النهاية تكرمني.. ساعدني يارب وثبتني، يارب خلي نفسي قوية وارزقني حُب الأمانة.. يارب.. ياارب قويني وارحم ضعفي)
خلصت دُعا وروحت قعدت على قهوة قصاد المسجد بالظبط، طلبت كوباية شاي وفضلت قاعد سرحان وباصص على رصيف الجامع اللي قصاد القهوة بالظبط.. وقتها لَفت نظري تلاتة مجاذيب قاعدين قصاد الجامع، ست واتنين رجالة لبسهم مبهدل وشعرهم منكوش، قاعدين شاردين وباصين قدامهم وكأنهم أجسام من غير روح او عقل، لكني وانا سرحان معاهم، فجأة سمعت من على يميني صوت مجذوب من المجاذيب اللي بيبقوا موجودين في محيط المسجد باستمرار، سمعته وهو بيقول بصوت عالي..
(جاي.. المال جاي جاي.. بس انت شَغل دماغك، احنا في زمان الحرام فيه حلال.. والحلال فيه بقى حرام يتعمل في البشر، نوح وقت الغرق ساب ابنه.. اتخلى عنه، وعشان كده عاش، عيش يا ابن أدم وبيع.. بيع لو كان التمن غالي)
بصيت للراجل اللي جه من على يميني ووقف قدامي وقال الكلام ده وهو باصص لي، كان راجل عجوز لابس جلابية سودة، دقنه طويلة وعينه اليمين عليها حتة قماش، وكان ماسك في إيده عصاية تخينة بيتعكز عليها، بصيت له باستغراب وغصب عني سألته..
-انت بتكلمني انا يا عم الحاج؟!
بص لي هو كمان بتركيز وابتسم اوي..
-الكلام لأهل الأرض.. الكلام كله كلام، بس الشاطر اللي يفصله على مقاسه ويعمل بيه.
فضلت باصص له وانا مستعجب الحقيقة، مابقتش عارف ارد واقول له ايه، لكنه قطع استغرابي لما قرب مني اكتر..
-اديني جنيه، وهتاخد قصاده ٥٠ ألف لو فتحت دماغك.
استغربت اوي من الرقم اللي هو قاله، ده نفس الرقم اللي عارضه عليا المحامي المنافس للمحامي اللي انا شغال معاه، نفس الرقم اللي هاخده لو بيعت له ملف قضية من القضايا المهمة اللي المكتب بتاعنا شغال عليها، وبسبب استغرابي من رقم الخمسين الألف اللي هو قاله ده، قومت وقفت غصب عني وسألته بانفعال..
-انت تعرفني منين، وبعدين.. وبعدين انت عرفت منين موضوع الخمسين ألف جنيه ده؟!
لكنه ماهموش انفعالي، دي الابتسامة فضلت على وشه وهو بيرد عليا..
-ما انا قولتلك.. الكلام واسع، بس الشاطر اللي يفصله على مقاسه، انا مش عاوز منك حاجة.. انا ماشي.
قال لي كده ومشي، عدى الناحية التانية وراح قعد على رصيف جنب المسجد، هو مش قصاد المسجد بالظبط، هو جنبه بس بعيد عنه بكام متر، وقتها رجعت قعدت في مكاني وشربت شوية من كوباية الشاي اللي كانت جنبي وانا باصص عليه ومركز معاه اوي، وهو كمان على فكرة.. هو كمان كان باصص لي ومركز معايا وهو مبتسم اوي، لكن قطع سرحاني وتركيزي معاه صوت راجل سمعته جاي من على الكرسي اللي جنبي..
-المدد من رب العباد، المدد من غير عدد.. رحمته طالت الشايب والولد.
بصيت له وانا مخضوض مش بسبب شكله ولا حاجة، هو كان راجل عادي، لابس جلابية بيضا وماسك سبحة وقاعد بيبص على المسجد، انا بس استغربت هو ازاي جه قعد على الكرسي اللي جنبي فجأة كده وماحستش بيه!
وقبل ما يكمل الكلام اللي كان بيقوله، لقيت نفسي غصب عني وبفضول بسأله..
-ونعم بالله يا عم الحاج.. بس انت قعدت جنبي امتى وازاي انا ماحسيتش بيك.
بص لي وبعد كده بص للراجل الغريب اللي كان قاعد على الرصيف وعمال يبص لي، وبعد كده رجع بص لي تاني..
-انت كنت سرحان.. كنت سرحان معاه.
بصيت للراجل الغريب ده وسألت العجوز اللي قاعد جنبي..
-انت تعرفه؟!
فجاوبني بسرعة وبتلقائية..
-اه.. بس مش مهم اعرفه ولا لأ، المهم انت.. مالك قافل وشك كده ليه؟!
استغربت بصراحة من تلقائيته وصراحته، لكني وبرغم استغرابي، إلا إنِ كنت عامل زي الغريق اللي اتعلق في قشاية، ماصدقت لقيت حد نكشني وسألني عشان احكي، فبتلقائية انا كمان لقيت نفسي بجاوبه..
-اهو.. متاعب الدنيا يا عم الحاج ومشاكلها وقرفها، ألا بالحق.. هو أسم حضرتك ايه؟!
سألته سؤالي ده عشان اتعرف عليه اكتر وافضفضله، وده بصراحة لأني ماكنتش لاقي حد اتكلم معاه، فابتسم في وشي وقال لي..
-بركة.. انا عمك بركة، احكيلي يا ابني وفضفض، عينيك مليانة كلام.
سكتت لثواني جمعت فيهم كلامي وافكاري، بعد كده شربت فيهم شوية تانيين من كوباية الشاي وبعد كده قولتله..
-مصطفى.. إسمي مصطفى فرحان، كنت وحيد ابويا وامي اللي ماتوا ورا بعض في اخر سنة ليا في الكلية، ورثت عنهم شقتي اللي انا قاعد فيها دلوقتي.. انا اتخرجت من كلية الحقوق، من حوالي تلات سنين وكام شهر، بعدها فضلت سنة بحالها بعد ما اتخرجت، ادور على شغل يناسب شهادتي، لكني في الحقيقة مالقتش، فاشتغلت حاجات كتير.. كاشير في مطعم، ويتر في مطعم تاني، لحد ما ربنا كرمني واتعرفت على محامي كبير شغلني في مكتبه محامي تحت التدريب، وقتها حمدت ربنا وقولت اهي فرصة وجت لي بالرغم من إن مرتبها قليل، بس اهي فرصة عشان اخد خبرة، وفرصة كمان عشان اجتهد اكتر واشيل قرشين وافتح مكتب خاص بيا، بعد ما يبقى عندي الخبرة الكفاية من شغلي في مكتب المحامي الكبير ده، وبعد شغلي في المكتب بحوالي سنة وكام شهر، قابلت بنت اسمها سارة بالصدفة.. حبيتها وهي كمان حبتني، او انا كنت فاكر إنها حبتني لحد بعد الجواز، انا من بعد ما اتجوزتها وانا حياتي معاها ماكانتش زي ما كنت بتمنى، بقى بيحصل ما بيننا مشاكل تقريبًا يوميًا بسبب مرتبي القليل، ما انا ماورثتش عن ابويا وامي غير الشقة اللي اتجوزت فيها والستر والصحة.. ومع مرور الأيام وكمان مع عدم الخلفة وزيادة المصاريف عليا، ابتدت المشاكل ما بيننا تكتر، لحد ما من كام يوم جت لي مكالمة على الموبايل من واحد طلب إنه يقابلني في حاجة مهمة تتعلق بشغلي، وافقت لما قال لي إنه هيقابلني في عز الضهر وفي مكان عام، ولما روحت وقابلته، اكتشفت إنه محامي كبير اوي.. تقدر تقول كده إنه المنافس للمحامي اللي انا بشتغل معاه، وفي المقابلة دي، طلب مني المحامي الكبير ده طلب خلاني برقت له، طلب مني إن انا اصورله تفاصيل شغلنا في قضية كبيرة اوي، القضية دي كانت قضية لراجل فاسد، بس غني.. اتسبب في موت ناس كتير لما بنى عماير بدون تراخيص، واهالي الناس اللي ماتوا كانوا مقومين المحامي اللي انا شغال معاه كمحامي ليهم في القضية عشان يجيب لهم حقهم من الراجل الظالم القاتل ده، او تقدر تقول بمعنى أصح يعني، أن المحامي اللي انا بشتغل معاه، هو اللي وافق على إنه ياخد القضية، وكمان رفض إنه ياخد فيها أي مليم لسببين؛ السبب الأول لأنه راجل محترم وفعلًا عاوز يساعد في إن حق الناس اللي ماتوا دول يرجع، والسبب التاني إنه لو كسب القضية دي، شهرته هتزيد وكمان شهرتنا معاه، وهنا بقى كان مربط الفرس، المحامي اللي انا قابلته ده، طلب مني إن انا اصورله ملاحظاتنا وكل الأوراق اللي تتعلق بالقضية، وكمان اعرفه كل صغيرة وكبيرة ناويين نعملها، وفي مقابل كده قال لي إنه هيديلي ٥٠ ألف جنيه، والأبهار في العرض بقى لما قال لي إنه هيديني الفلوس دي من قبل حتى ما يتحكم في القضية، وده ببساطة لأنه لو عرف تفكير المنافس او خطوات سيره، هيقدر ببساطة يكسب القضية وهو حاطط رِجل على رِجل، اه.. ماهو كان محامي عُقر برضه، بس القضية ماكانتش سهلة، فعشان كده كان كل همه إنه يعرف المحامي اللي انا بشتغل معاه هيقدم اوراق ايه كمفاجأة في القضية يعني، او على الأقل يعني هيتصرف ازاي في التفاصيل الكبيرة والصغيرة، لكن انا بقى اول ما سمعت العرض ده مافكرتش، انا رفضت رفض قاطع، انا مستحيل ابيع زمتي ولا الراجل اللي بشتغل معاه، انا ماشوفتش منه إلا كل خير وكمان هو وقف جنبي كتير اوي في جوازي وكان بالنسبة أب بدل ابويا الله يرحمه، فرفضت وقتها وسيبته ومشيت من غير أي نقاش، ولما روحت البيت وحكيت لمراتي، اتخانقت معايا وقلبت المناقشة في الموضوع لخناقة كبيرة.. ومن يومها بقى وانا في هَم يا عم بركة، كل يوم مشاكل، كل يوم بتضغط عليا عشان اوافق بالعرض النجس اللي اتقدملي من المحامي التاني، اه نجس يا عم بركة.. ما انا لما ابيع الراجل اللي وقف جنبي، تبقى نجاسة، ولما ابيع مكان شغلي وزمايلي ومجهودنا في القضية، تبقى نجاسة، لا والنجاسة الأكبر بقى هي إن انا هبيع دم ناس ابريا ماتوا تحت أنقاض العمارات اللي وقعت دي، وكمان هتسبب في إن راجل فاسد وظالم زي ده، يخرج منها ويرجع تاني يكمل فساده وقتله للناس بأسم البيزنس، وفضلنا على الوضع المنيل ده انا ومراتي لحد ما من شوية وبعد ما رجعت من الشغل، اتخانقت معايا خناقة من غير أسباب، وفيها طبعًا طلبت مني إن انا اقبل بالعرض اللي متقدملي عشان مستوانا المادي يتحسن، وكمان عشان نروح لدكتور كويس ونشوف ايه اللي مأخر موضوع الخلفة ده عندنا، بس انا طبعًا ماسكتلهاش، انا زعقت معاها، وفي نهاية الخناقة طلبت مني الطلاق، انا تعبان يا عم بركة ومضغوط ومش عارف اعمل ايه، جوايا حاجة بتقولي لا.. اوعى تقبل، اوعى تبيع مبادئك وربنا هيكرمك مع الأيام، وجوايا ألف حاجة تانية بتقولي بيع.. بيع وخد الفلوس وعيش، بس انا تعبت من التفكير.. تعبت ومابقتش عارف اعمل ايه، انا من كتر الهم والتفكير قربت اتجنن وابقى عامل زي المجاذيب اللي قاعدين قصادنا دول.
لما بصيت عليهم، بص عليهم عم بركة هو كمان وقال لي..
-طب وتفتكر لو قبلت، مش هتبقى زيهم كده؟!
بصيت له باستغراب وسألته..
-ازاي يعني، تقصد ايه؟!
كمل كلامه وهو لسه مركز معاهم..
-المجاذيب دول كل واحد منهم مابقاش كده من فراغ، كل واحد منهم فات دنيا ورا ضهره بعد ما عقله راح وبقى زي ما انت شايف كده، وكل ده تفتكر بسبب ايه؟!
-ايه؟!
-بسبب اختيار يا ابني.. كل واحد فيهم له حكاية، حكاية كان في إيده إنه يغيرها لو اختار صح، إنما هم بقى مافكروش ولا كان عندهم ضمير يأنبهم زي ما انت بتعمل دلوقتي كده، هم اول ما جالهم الطوفان باعوا نعمة العقل وبدلوا الغالي بالرخيص.
بص لي من تاني وكمل كلامه وهو بيشاور عليهم..
-التلاتة دول ليهم حكايات لو عرفتها، هتعرف إنك ممكن تبقى زيهم لو وافقت.
-طب وانت عارف حكاياتهم يا عم بركة؟!
هز لي راسه بالإيجاب وهو بيبتسم..
-اه.. وهحكيهملك لو عندك وقت.
خدت شوية كمان من كوباية الشاي وانا بقوله..
-اه عندي.. انا كده كده ماليش نفس اروح لبوز الأخص اللي في البيت دي.
اتبدل وش عم بركة من الابتسامة للجدية وابتدى يحكي..
-هبدأ لك بالست.. الست دي إسمها ام نعمة، كانت ست قادرة وقوية، شوفت المرحومة ماري مُنيب وهي بتقول مدوباهم اتنين.. اهي دي بقى كانت مدوباهم اربعة، اتجوزت اربع مرات، اطلقت مرتين واجوازها ماتوا في المرتين التانيين، انتهى بيها الحال كست كبيرة عايشة في بيتها مع بنتها الصغيرة نعمة واخوها نعيم، ولادها كلهم كانوا متجوزين معادا نعمة الصغيرة خالص، ونعيم اللي اكبر منها، في يوم خبط على باب بيتها القديم راجل شكله فخم اوي يا ابني، كان لابس بدلة وشكله ابن ناس اوي، قعد اتكلم معاها وقال لها إن البيت بتاعها تحته أثار، وبالتحديد في أوضة من الأوض، ولما سألته انت عرفت منين، قال لها إنه ساحر ابن ساحر، وهي بس كل اللي مطلوب منها ومن ولادها إنهم يحفروا في الاوضة دي حفرة غويطة اوي، وبعد ما يحفروا الحفرة تتصل هي بيه، وهو هيجي يطلعلها الدفاين من الحفرة وكمان هيصرفهالها، ولأن الست كانت بخيلة، وكمان حالتها المادية ماكانتش قد كده، فوافقت على كلامه المعسول وقالتله حاضر هنفذ، وقتها الراجل الغريب ده اداها رقم تليفونه وسابها ومشي، وبعدها على طول جمعت ام نعمة عيالها كلهم حتى المتجوزين منهم، وقعدت معاهم وقالتلهم على اللي حصل، وقالتلهم كمان إن الموضوع ده لازم يتم في سرية شديدة، يعني ماينفعش يجيبوا حد غريب يحفر ولا ينفع يحفروا بالليل عشان ماحدش يسمعهم لأن الدنيا بتبقى سكوت، وعشان كده كملت كلامها وقالت للعيال إنهم لازم هم اللي يحفروا بإيديهم لحد ما يوصلوا للمسافة المطلوبة، فاقتنعوا العيال بكلامها وابتدوا يحفروا، كلهم وافقوا ما عدا بنتها نعمة اللي قالت لها في بعد ما خلصت كلامها معاهم..
(يا امه غلط يا امه.. السكة اللي انتي ناوية تمشينا فيها دي غلط، الأثارات مابيجيش من وراها غير الدم والهم، وحكايات اللي قبلينا تشهد.. ده غير كمان البوليس اللي لو بس شم خبر، ممكن يودينا ورا الشمس)
لما نعمة قالت لامها كده، الولية اتعصبت عليها وقالتلها..
(بت انتي.. بقولك ايه، اوعي تقولي التخاريف دي قدام حد من اخواتك لا يرجع في كلامه، وبعدين دم ايه وهم ايه.. ربنا ما يجيب لا دم ولا هم، وكمان ربنا يبعد عننا عيون وسمع البوليس، احنا هنحفر يا حبيبتي وهنطلع الدفاين وهناخدلنا القرشين من غريب بيه اللي جالي ده، وبعد كده بقى هنسيب البيت والمنطقة بحالها وهنمشي، واديني بقولك اهو.. انتي اغلى ولادي واقربهم لقلبي، ده انا مابخليش حد يناديني بأسم أي واحد فيهم إلا انتي، فماتخليش الحب اللي جوايا ليكي، يتغير بسبب كلامك الاهبل ده)
سكتت نعمة وبصت لامها بيأس لما حست إن كلامها مافيش منه فايدة..
(ماتقلقيش يا امه، اخواتي كده كده ما صدقوا لقوا غنيمة عشان يكبشوا وينهبوا منها، يعني مهما سمعوا مش هيغيروا رأيهم، اما بقى عن كلامي.. فانا خلاص هحتفظ بيه لنفسي، بس على شرط، انا مش همد إيدي في الحاجة اللي هتطلع دي ولا هاخد من فلوسها مليم، وكمان عاوزاكي تعرفي حاجة يا امه، انا مش راضية عن اللي هيحصل ده وخايفة منه اوي وقلبي مقبوض، وكمان حاسة كده إن هيجي من وراه مصيبة سودة وهتحط على دماغنا كلنا)
لما البت قالت لامها كده، الست ضحكت وحاولت تطمنها..
(ماتخافيش يا بت ولا تقلقي، وبعدين انتي هتغيري كل كلامك ده لما تشوفي التماثيل اللي بتلمع طالعة من تحت الأرض يا فقرية)
بصت لها البت وسكتت وخلص الكلام ما بينهم على كده، اما عن الحفر بقى، فولاد ام نعمة كانوا شغالين حفر كل يوم بالنهار لحد ما كانوا قربوا يوصلوا للعمق اللي الراجل اللي اسمه غريب ده قال عليه، لكن قبل ما يوصلوا للعمق بيوم، وفي الليلة اللي المفروض تاني يوم بعدها هيوصلوا فيه للعمق المطلوب، ابتدوا الاخوات في الأول يتخانقوا مع بعض على مين بيشتغل اكتر من مين، لكنهم اتصافوا في الأخر وبالنهار كملوا حفر لحد ما تعبوا، ومع تعبهم ابتدوا يتعصبوا على بعض بسبب إن واحد منهم قال.. اللي حفر اكتر هياخد حصة أكبر، لكن واحد تاني اعترض ومسك في خناق اللي قال الفكرة دي، وطبعًا الاخوات ساعتها اتقسموا ما بين اللي موافق على الفكرة دي واللي رافضها، والموضوع اتطور ما بينهم لخناقة كبيرة حوالين الحفرة، ولما ام نعمة اتدخلت هي وبنتها نعمة، زقوا الولية بعيد وكملوا ضرب في بعض، اما عن نعمة بقى، فدي اخوها نعيم زقها بكل قوة في وسط الخناقة عشان تقع جوة الحفرة ورقبتها تتكسر وتموت... ماتت نعمة يا ابني والاخوات سكتوا، ومع سكوتهم الأم قامت تضرب فيهم وتقولهم طلعوا اختكوا.. طلعوا اختكوا، فسمعوا كلامها وطلعوا البت اللي كانت جثة طبعًا، جثة خدتها امها في حضنها وفضلت تصرخ وتصوت وهي بتلطم على وشها..
(يا نعمة.. يا بنتي.. قومي يا بنتي وانا هسمع كلامك، قومي وانا مش هخليهم يحفروا ولا يطلعوا حاجة.. كان معاكي حق يا بنتي، كان معاكي حق، الحفر جاب لنا الدم والهم، الحفر جاب لنا الدم والهم..)
وفضلت الولية تصوت وتقول كده بصوت عالي لحد ما الجيران اتلموا، وطبعًا لما الناس عرفوا باللي حصل بلغوا البوليس اللي جه وقبض على الاخوات كلهم وشمعوا البيت، ومن وقتها بقى وام نعمة زي ما انت شايف، بعد دفنة بنتها بقت هايمة في الشوارع.. مجذوبة من مجاذيب السعي الحرام ورا المكسب السهل، واللي جننها اكتر بقى إنها لما طلعت الورقة اللي فيها الرقم واتصلت بيه، اداها غير موجود بالخدمة، وكأنه كان وسواس جه وقال لها تعمل كده بس.. عشان تفقد اعز عيالها، نعمة.. نعمة اللي لحد النهاردة الست بتنادي عليها ليل ونهار وبتقولها سامحيني، اما بقى عن البيت، فده اتهد بعد كده والعيال بعد ما خرجوا من الحبس باعوا الأرض اللي تحته، واللي بالمناسبة يعني ماكنش فيها لا كنز ولا دفاين ولا اي حاجة، ولحد النهاردة زي ما انت شايف، راميين امهم كده على باب السيدة، تاخد لقمة من ده، على حسنة من ده، دي حتى بتنام في مكانها، ماهي عشان مشيت ورا الوسواس، فقدت أعز الناس.
لما وصل لحد هنا بصيت للست اللي لقيتها باصة للسما وهي بتكلم نفسها، ضربت كف بكف وانا صعبان عليا حالها بصراحة..
-لا حول ولا قوة إلا بالله.. ربنا يرحم بنتها يارب، طب والتاني ده بقى حكايته ايه؟!
بص لي عم بركة وقال لي..
-التاني اللي على يمين ام نعمة ده بقى حكايته حكاية.. يتبع
(ده الجزء الأول من قصة بركة.. )
محمد_شعبان

بركة
٢ 

لما وصل لحد هنا بصيت للست اللي لقيتها باصة للسما وهي بتكلم نفسها، ضربت كف بكف وانا صعبان عليا حالها بصراحة..
-لا حول ولا قوة إلا بالله.. ربنا يرحم بنتها يارب، طب والتاني ده بقى حكايته ايه؟!
بص لي عم بركة وقال لي..
-التاني اللي على يمين ام نعمة ده بقى حكايته حكاية؛ ده دكتور محروس، كان متجوز وعايش في قرية من قرى الريف، له أخ وأخت، اخوه متجوز وعايش في نفس القرية، واخته متجوزة وعايشة في نفس القرية برضه، بس جوزها تملي مسافر برة مصر بسبب شغله.. جوزها كان بيسافر ويسيبها بالشهور، لكن المشكلة بقى ماكانتش في اخته ولا في اخوه.. المشكلة كانت في محروس نفسه لأنه كان بيشتغل دكتور نسا في مستشفى الجامعة اللي تابعة ليها القرية بتاعته، وفي نفس الوقت كمان كان فاتح عيادة في البلد، بس لأنه كان فاتح العيادة في بلد ريفية، فأهلها ماكنوش بيصدقوا اوي في الطب والكلام ده، يعني اي واحدة كان بيبقى عندها مشكلة سواء في الخِلفة او غيره، كانت بدل ما تروح لدكتور محروس، كانت بتروح لدجال يعملها عمل عشان تخلف لو مابتخلفش، او عشان حياتها مع جوزها تتعدل لو كانت ملخبطة، فبالتالي كان محروس دكتور اه وله قيمة وسط الناس، لكنه في الحقيقة ماكنش مرتاح في حياته بسبب قلة الفلوس، ماهو مرتبه من مستشفى الجامعة على الكام جنيه اللي بيجوله من العيادة اللي ماحدش بيعبرها، ماكنوش كفاية عشان يعرف يعيش حياة مرتاحة هو ومراته وعياله، فمع الوقت وقلة الفلوس وضيق الحال، ابتدى يظهر على محروس علامات الضيق والفقر، لحد ما في يوم من الأيام، ووقت ما محروس كان موجود في مستشفى الجامعة، جه دكتور للقسم اللي هو بيشتغل فيه، الدكتور ده كان اسمه دكتور غريب، كان جاي يشرف على حالة كام يوم وهيرجع القاهرة من تاني، فلما قابل محروس وشاف شكله المتضايق ولبسه اللي بيدل عن إن مستواه المالي ضعيف، بص له بابتسامة خبيثة وقال له..
(مالك يا دكتور.. شكلك مش عاجبني، من أول ما جيت القسم وانا شايفك على طول متضايق ومخنوق وبتزعق كتير اوي... انا حاسس إن في حاجة مش مريحاك في حياتك)
قعد محروس قصاده وحط وشه في الأرض...
(معاك حق يا دكتور غريب، انا فعلًا حياتي مش مظبوطة، الملاليم اللي باخدهم من المستشفى هنا، على الكام ملطوش اللي بيدخلوا لي من العيادة اللي ماحدش بيعبرها لأننا في قرية وبالنسبة لهم عيادة دكتور النسا زي الخمارات، مابيقضوش مصاريفي لا انا ولا مراتي ولا عيالي، الحالة بقت صعبة اوي يا دكتور.. وإن جيت على نفسي النهاردة واستلفت من فلان، هيتريق عليا ويقول في ضهري.. مش عيب يبقى دكتور وملو هدومه كده ومش لاقي يوكل عياله، وحتى لو سلفني وماتكلمش عليا في ضهري، فانا مش هعرف ارد الفلوس اللي استلفتها دي وهبقى محتاج كمان استلف تاني.. انا حقيقي تعبت وبفكر اسيب البلد واهج على القاهرة، بس مراتي وعيالي مانعيني.. انا خايف عليهم، دول مايقدروش يعيشوا برة البلد اللي اتعودوا عليها وعلى أهلها ومدارسها، انا تعبت يا دكتور.. تعبت ومابقتش عارف اعمل ايه)
لما دكتور محروس قال للدكتور غريب كلامه ده وشرحله حالته، قرب منه الدكتور غريب وقال له وهو بيطبطب على كتفه..
(ولا تشيل هم.. انا عندي الحل)
بص له محروس بعيون بتلمع وقال له بلهفة..
(الحقني بيه الله يباركلك، الحقني بيه قبل ما حياتي تبوظ اكتر من كده وابقى شحات ومادد إيدي للي يسوى واللي مايسواش)
قعد غريب قصاده وقال له...
(سهلة... اعمل زي ما انا عامل، انا عندي عيادة كشف.. دي اللي الناس عارفاها، وفي نفس الوقت عندي عيادة تانية مستخبية، عيادة شمال بشتغل فيها بأسم غير إسمي)
برق له محروس وسأله..
(عيادة شمال ازاي يعني؟!)
فشرحله غريب..
(عيادة إجهاض، العيادة دي واخدها في مكان بعيد عن بيتي وكمان بعيد عن عيادتي الأصلية وحياتي كلها، ومش بس كده.. ده انا كمان مسمي نفسي بأسم تاني غير أسمي الحقيقي، يعني الدكتور غريب اللي كل الناس عارفاه، بنساه اول ما بدخل عيادة الأجهاض وبخلي الممرضة اللي بتشتغل معايا، تندهلي بأسم دكتور عواد، وقبل بس ما تسألني عن اي حاجة.. خليني اقولك إن انا بكسب منها ملايين، الواحدة من دول تيجي تجهض عندي ووراها تجر جيش من معارفها، ده غير كمان إن انا معظم الوقت ببقى لابس كمامة وقت الكشف وبتبقى مغطية معظم وشي، عشان يعني ماحدش من الستات اللي بيجوا لي يعرف شخصيتي، بس حتى لو عرفوا يعني.. عادي، هم كده كده مستحيل يقعوا في سكتي وقت ما بكون الدكتور غريب، مش دكتور عواد زي ما هم عارفين)
سرح محروس لدقايق، دماغه فضلت تودي وتجيب، كلام غريب كان كلام مقنع بالرغم من إنه غلط وحرام، ده يعتبر قتل بدون وجه حق، وفضلت دماغ محروس تودي وتجيب وهو ساكت لحد ما قام غريب وقبل ما يسيبه ويمشي قال له بمكر..
(فكر.. خد وقتك وفكر، بس لو الفكرة عجبتك ماتتردتش تنفذها، انت مش هتعمل حاجة حرام.. انت هتكسب كتير اوي، وفي المقابل هتخلص البشرية من عيال ولاد حرام ممكن يعملوا في الدنيا دي بلاوي لما يكبروا، او يفضلوا عايشين طول حياتهم بوصمة عار مش هتفارقهم إلا مع دخولهم القبر)
قال غريب كلامه ده وساب محروس لأفكاره.. محروس اللي فضل الموضوع شاغل دماغه حتى بعد ما غريب خلص شغله في الحالة اللي كان جاي يتابعها ورجع للقاهرة، لكن مع الوقت ومع ضيق الحال على محروس، ابتدى ياخد الموضوع بجدية وكمان بدأ في تنفيذه، راح لبلد بعيدة شوية عن بلده وخد فيها أوضة إيجار في مكان متطرف، وبعلاقاته مع الممرضين والممرضات.. ابتدى يتعامل مع حالات إجهاض في العيادة البعيدة اللي خدها، وحالة ورا حالة لحد ما اتعرف الدكتور محروس بأنه بيعمل عمليات إجهاض، بس الحقيقة يا ابني كل اللي كانوا بيجهضوا عنده ماكنوش يعرفوا إن اسمه محروس، هم كانوا يعرفوه بالأسم اللي سمى نفسه بيه، دكتور عواد.. وده كان نفس الأسم اللي قال له عليه دكتور غريب، ومرت الأيام والشهور.. ودكتور محروس مفهم مراته إنه نزل شغل جديد في مستشفى خاصة بعيدة عن البلد، وعشان كده دخله زاد وكمان بقى بيتأخر في شغله كتير، وفضل محروس على الحال ده، فلوسه بتزيد وزباينه الشمال بيكتروا.. لحد ما في يوم وهو قاعد في عيادة الإجهاض، دخلت عليه الممرضة وقالتله إن الحالات كلها خلصت وماتبقاش غير حالة واحدة بس، الحالة دي جاية مع راجل وعايزة تجهض، وقتها رد عليها محروس وقال لها دخلي الراجل الاول عشان اتفق معاه على الفلوس، فدخل الراجل اللي اتكلم مع الدكتور محروس وقال له إن اللي معاه دي تبقى ست متجوزة بس جوزها مش عايش في مصر، وهو يعني راجل من القرية اللي فيها العيادة الشمال بتاعة محروس، والست دي من قرية بعيدة عنهم شوية.. فهو اتعرف عليها وهو بيخلص مصلحة في القرية دي وحبها وحصلت ما بينهم علاقة بقت حامل بسببها، والمفروض إن العيل ده ينزل عشان جوزها او أهلها او اهله لو عرفوا إنها بقت حامل وهو مسافر، احتمال يقتلوها، فهز له محروس راسه بالموافقة واتفق معاه على الفلوس وقال له دخل الحالة بعد طبعًا ما شاف نتيجة التحاليل والأشعة بتاعتها، بس لما الست دخلتله اتجمدت في مكانها، ومحروس هو كمان فضل مبرق لها وهو مصدوم، فضلوا على الوضع ده لدقايق لحد ما الست طلعت تجري من العيادة وهي بتصرخ، وقتها بص له الراجل اللي كان معاها وسأله عن سبب اللي حصل، ومع سؤاله فاق محروس من التوهة والصدمة اللي كان فيهم وفضل يضرب فيه وهو بيقوله إن الست دي تبقى أخته.. جري الراجل او عشيق اخته ده من تحت إيده بالعافية وهرب، ومن وقتها وهو محروس مابقاش محروس.. خرج ليلتها من العيادة وهو هيتجنن، راح جري على بيت اخته اللي مالقهاش فيه طبعًا، البيت كان فاضي واخته كانت سايبة العيال عند حماتها، وفضلت من وقتها اخته غايبة لحد ما عرفوا بعد كده إنها ماتت او انتحرت يعني لما لقوا جثتها في النيل بعد كام يوم، ومن وقتها يا ابني وهو انعزل.. لا بقى بيروح شغله ولا بقى بيتكلم مع حد، اتجنن من بعد اللي حصل لاخته ومن بعد فضيحته هو وأهله لأن الحكومة قالت إنها كانت حامل لما انتحرت، وطبعًا جوزها كان مسافر، فالبلد كلها عرفت إنها انتحرت لأنها ست خاينة وحملت من راجل غير جوزها، لكن محروس بقى وقتها حس إنها رسالة له.. رسالة مضمونها، كما تدين تُدان، ومن ساعتها وهو بقى مجذوب، خرج من بيته اللي في البلد وراح ركب محطة القطر وساب الدنيا ومشي، جه هنا قصاد مسجد السيدة ورفع إيده للسما ودعا ربنا إنه يسامحه ويسامح اخته، واهو.. لحد النهاردة زي ما انت شايف كده، عقله خف لما رفض الدنيا اللي كان عايشها وسابها وجه هنا.
لما عم بركة وصل لحد هنا، بصيت للراجل الأخير وسألته..
-طب والأخير يا عم بركة.. حكايته ايه؟!
بص بركة للأخير وابتدى يحكي لي حكايته..
-ده بقى حكايته حكاية، إسمه عبد الصبور.. لكنه ماكنش صبور أبدًا، من بعد ما اتجوز مراته بكام شهر ولقاها ماحملتش، اتجنن.. زن أهله وأهلها عليه خلوه يلف عند الدكاترة والمشايخ، وكلهم قالوا له إن هي وهو مافيهمش أي حاجة ولا معمول لهم أي عمل، هي بس مسئلة وقت وربنا هيرزقهم.. بس لأن الأنسان بطبعه مستعجل وتملي بيجري ورا رزقه زي الوحش ما بيجري ورا فريسته، فعبد الصبور الشاب الغلبان اللي بيشتغل مبيض محارة وعايش في حي شعبي من أحياء القاهرة، حياته اتقلبت.. بقى على طول متضايق ومخنوق، معظم الوقت بقى يسيب البيت ويقعد على القهوة اللي متعود يقعد عليها مع اصحابه، وفي مرة من المرات وبعد ما اتخانق مع مراته برضه بسبب موضوع الخلفة ده، نزل قعد على القهوة مع واحد صاحبه وهو متضايق ومخنوق اوي، فلما سأله صاحبه عن سبب خنقته وضيقته، حكى له إنه بيفكر يتجوز تاني بسبب إنه ماخلفش من مراته، لكن عبد الصبور وهو بيحكي غصب عنه بكى، بكى لأنه كان بيحب مراته اوي وماكنش عاوز يتجوز عليها، لكنه كان هيعمل ايه يعني، زَن ابوه وامه عليه، وكمان تقطيم حماه وحماته له، خلوه يفكر في موضوع الجواز من واحدة تانية ده، واهو منها يأكد لنفسه إنه ممكن يخلف عادي، وكمان يأكد لمراته ولكل اللي حواليه إن العيب منها مش منه، بس في الوقت اللي كان عبد الصبور قاعد وبيحكي لصاحبه، سمعهم راجل غريب كان قاعد لوحده على ترابيزة قريبة منهم، الراجل ده لما سمع كلام عبد الصبور ولقاه بيعيط، قام من مكانه وراح قعد جنبه، سلم عليه وعلى صاحبه وعرفهم بنفسه بعد ما طبطب على عبد الصبور ووساه طبعًا..
(انا إسمي غريب.. كنت قاعد على الترابيزة اللي جنبكوا وسمعتكوا وانتوا بتتكلموا وشوفت الأستاذ وهو بيبكي، فبصراحة ماقدرتش اتمالك نفسي لأن دموع الراجل لما بتنزل منه بتبقى غالية اوي، وبيني وبينكوا كده قولت بيني وبين نفسي إن انا اجي اساعد واقوله على حل انا عارفه لأني عرفت الموضوع يعني لأنكم كنتم بتتكلموا بصوت عالي شوية)
مسح عبد الصبور دموعه وبص للغريب وبلهفة سأله..
(حل ايه.. الحقني بيه)
جاوبه الغريب وهو بيبص له بابتسامة شيطانية..
(في مولد بيتعمل كل سنة في قرية من قرى الأرياف، المولد ده بيجي فيه راجل واصل اوي اسمه الشيخ المنزلاوي، الراجل ده مافيش حد راحله إلا ورجع من عنده باللي هو عاوزه.. اللي عاوز يخلف بيساعده يخلف بطريقته، واللي ضايع منه حاجة بيعرفله مكانها برضه بطريقته برضه، ومن حسن حظك بقى إن المنزلاوي ده هيكون موجود بكرة في المولد، وانا اصلًا من القرية دي وعارف كل اللي بيحصل فيها، وبيني وبينك كده ياما ناس من بلدنا كانوا مابيخلفوش، ولما راحوا له ساعدهم ودلوقتي معاهم أورطة عيال)
اول ما الغريب قال كده، عبد الصبور الضحكة مَلت وشه وخد منه عنوان المولد، بعدها الغريب مشي وصاحب عبد الصبور قال له بلاش.. بلاش تروح لأنه ماكنش مرتاح للغريب ده، لكن عبد الصبور ماسمعش كلام صاحبه ولا سمع لكلام الطب ولا العقل ولا الدين، ده روح جري على بيته وحكى لمراته اللي طاوعته وتاني يوم سافروا وراحوا للمولد ده، وهناك سألوا على الشيخ المنزلاوي، فالناس قالوا لهم إنه بيجي مرة واحدة بس كل كام سنة، ومن حظهم بقى إنه موجود المرة دي، فبسرعة جري عبد الصبور هو ومراته على خيمة المنزلاوي اللي كانت في نص المولد بالظبط، وعلى باب الخيمة لقوا راجل خد منهم فلوس ووقفهم في طابور وبعد كده دخلهم عشان يشوفوا المنزلاوي، كان راجل عنده حاجة وخمسين سنة، وشه بيضحك اه.. لكنه يا ابني ماكنش مريح أبدًا، بلع عبد الصبور ريقه وقال له على السبب اللي هم جايين عشانه، وبعد ما خلص كلامه بص المنزلاوي لمرات عبد الصبور وقال له وهو بيبتسم اوي..
(المشكلة في مراتك.. عدت على سحر مرشوش وبسببه رحمها مربوط، اطلع برة وانا هعملها جلسة رقية وبعد دقايق هتاخدها وتمشي، بس لما تروحوا ماتلمسهاش لمدة تلات أيام.. وبعد كده عيش معاها عادي والمراد هيتم في ظرف شهر)
في الاول عبد الصبور ماكنش مرتاح، لكن مراته اللي كان عليها ضغوطات كبيرة اوي من حماها وحماتها وكانت عايزة ترضيهم وترضي جوزها بأي شكل، هزت له راسها بالموافقة، فسمع كلامها وخرج، ومع خروجه ولع المنزلاوي بخور، وأول ما البخور ده اشتغل في الفحم القايد.. ابتدت الست تدوخ، وأثناء ما هي دايخة فضل يقرا عليها كلام مش مفهوم وبعد كده اداها حاجة تشربها، وبمجرد ما شربت من السائل اللي اداهولها وهي حست إنها مش مظبوطة، ومافيش ثواني وكانت شِبه غابت عن الوعي، وقتها قرب منها المنزلاوي اللي كان عامل زي الشيطان وعمل معاها علاقة، وبعد ما خلص اللي كان بينيله... نده على جوزها وقال له إن كده خلاص.. هو خلص الجلسة ولما تفوق هتبقى كويسة، ومش بس كده.. ده كمان خلاه دفعله فلوس كتير وأوهمه إنه فك السحر اللي مراته كانت معدية عليه، بعدها مشي عبد الصبور هو ومراته اللي ماكانتش في وعيها، كانت دايخة ومش قادرة تصلب طولها، ومن اليوم ده بقى والست حالها اتقلب، مابقتش طايقة جوزها ولا طايقة نفسها، يعني كل ما كان يقرب منها كانت بتجيلها حالة قيء غريبة، واستمرت على الوضع ده لحد ما في مرة رجع جوزها من الشغل ولقاها واقعة على الأرض وجنبها أزازة سم سايل، شالها بسرعة وراح بيها على أقرب مستشفى، بس وهو في طريقه للمستشفى الست كانت فايقة شوية، كانت يا ولداه بتطلع في الروح، وقبل ما يوصلوا بصت له وقالتله وهي بتبكي..
(انا ماكنتش فاقدة الوعي لما المنزلاوي سقاني اللي سقهولي ده، انا كنت فايقة شوية.. حسيت بيه، انا حامل بس اللي في بطني ده مش ابنك، انا حامل في ابنه هو.. انا عاوزة اموت)
افتكر عبد الصبور إنها بتخرف، وكمل في طريقه للمستشفى اللي بعد ما دخلتها بدقايق ماتت، الدكاترة ماقدروش يلحقوها لأن جسمها كان ضعيف والسم اتمكن منها، وطبعًا بعد ما ماتت وعبد الصبور راح للمنزلاوي عشان يقتله بعد اللي عرفه من مراته قبل ما تموت، مالاقهوش.. المنزلاوي طبعًا كان اختفى زيه زي الغريب بالظبط، ومن يومها يا ابني وهو على الحال ده، اتجنن من بعد موت مراته وبقى مجذوب وبيلف على الموالد عشان يلاقي المنزلاوي، بس خلاص بقى يلاقي مين، المنزلاوي طار زيه زي عقل عبد الصبور بالظبط، عبد الصبور اللي انتهى بيه الحال كمجذوب عايش على رصيف السيدة زينب.
لما خلص عم بركة حكاية عبد الصبور، ضربت كف بكف وانا بقوله..
-لا حول ولا قوة إلا بالله، كل واحد منهم كان في إيده يختار كذا طريق تاني غير الطريق اللي اختاره، بس الغريب اللي طلعلهم ده كان هو السبب، ألا صحيح يا عم بركة، هو مين الغريب ده؟!
سرح بركة وهو بيبص للسما..
-الغريب ماقالهمش يختاروا السكة الغلط، هو وراهالهم بس وهم اللي اختاروا.. اما عن أصله وماهيته، فهو يا ابني باين من أسمه.. غريب، غريب عني وعنك وعن البشر كلهم، وزي ما رسم الطريق واختفى في حكاية ام نعمة، فهو برضه رسم الطريق لما اتشبه في شكل دكتور وظهر لمحروس، ونفس اللي عمله مع الاتنين.. عمله برضه مع عبد الصبور ودله على طريق الدجال، ودلوقتي بيدلك انت على الطريق اللي انت مش عاوز تختاره، بيحليه في عينك وبيقولك روحله.
سكتت بصراحة وانا قلقان من كلام عم بركة، بعد كده بصيت له وسألته..
-تقصد مين يعنب؟!
لكن عم بركة ماردش عليا، ده بص لي وابتسم وهو بيقولي..
-هقولك هو مين بس بعد ما احكيلك على حكاية صغيرة كده، حكاية تخصك.
هزيتله راسي وسمعته وهو بيكمل كلامه وبيقول لي..
-سيدنا أبراهيم عليه السلام، في مرة راح زار بيت أبنه سيدنا أسماعيل عليه السلام، وقتها مالقهوش في البيت، هو لقى زوجته.. وزوجته دي ماكانتش تعرف سيدنا أبراهيم عليه السلام ولا تعرف إنه ابو سيدنا إسماعيل جوزها من الأساس، فقالها سيدنا أبراهيم إنه عابر سبيل، وسألها عن أحوالها وأحوال جوزها.. فاشتكت من العيشة وضيق الحال، فلما سيدنا ابراهيم سمع منها الكلام ده، قال لها قولي لجوزك لما يرجع إنه يغير العتبة وربنا هيفرج أحواله، قال لها كلامه ده ومشي، ولما رجع سيدنا اسماعيل ومراته حكت له اللي حصل، عرف إن اللي كان موجود هو سيدنا أبراهيم.. ابوه، وكمان فهم قصده.. طلق مراته واتجوز واحدة تانية، وبعد جوازه من التانية بفترة.. عدى عليها برضه سيدنا ابراهيم وعمل معاها زي ما عمل مع الأولى، قال لها انا عابر سبيل وسألها عن أحوالها وأحوال جوزها، فقالتله إنهم الحمد لله في نعمة وعايشين في أفضل حال، فوقتها ابتسم سيدنا ابراهيم وقال لها قولي لجوزك اثبت على العتبة ومشي، ولما رجع سيدنا اسماعيل ومراته قالتله اللي حصل معاها، قال لها إن اللي كان بيزورهم هو ابوه وابو الأنبياء سيدنا أبراهيم عليه السلام، وأن معنى رسالته إنه يحتفظ بيها ومايسبهاش لأنها حمدت ربنا وشكرته وما اشتكتش من أحوال جوزها، الست يا ابني هي غطا بيغطي الراجل، والغطا ده لو فضحك سيبه وهات غطا غيره.. وكذلك الراجل برضه، الراجل اللي مايسعاش عشان مراته او يسعى في الحرام عشان يعيشها عيشة كويسة، لازم الست تنصحه بأنه يبعد عن السكة دي، مش تقويه عليها.. أظن يا ابني كلامي مفهوم، وأظن كمان إنك عرفت مين الراجل اللي جه وقالك الكلمتين اللي بسببهم كنت بتفكر تمشي في السكة الحرام.. ولو ماعرفتوش فاحب اقولك إنه الغريب اللي رسملك طريق جهنم، وفي الأخر راح قعد على الرصيف شوية واختفى، ايوة يا ابني هو نفسه اللي ظهر للتلاتة ودلهم على السكة الغلط وهم اختاروها، لكن انت بقى لسه.. لسه ما اخترتهاش، وخليك متأكد إنك لو اخترتها ومشيت ورا كلامه، هتبقى زيهم كده ويمكن أسوء كمان.
لما عم بركة قال لي كده، بصيت للراجل اللي كان قاعد على الرصيف، بس مالقتوش زي ما عم بركة قال، وقبل ما ارجع ابص لعم بركة واقوله معاك حق، سمعت صوت القهوجي اللي جه من جنبي وقال لي بصوت عالي..
-معلش يا أستاذ، احنا هنقفل دلوقتي عشان صلاة الفجر، الحساب عدم اللامؤاخذة.
طلعت من جيبي فلوس وانا بقوله..
-حاضر.. حسابي وحساب الراجل الطيب ده عندي.
قولتله كده وانا بشاور على مكان عم بركة، لكن ساعتها القهوجي بص للمكان باستغراب ورجع بص لي..
-راجل مين يا بيه عدم الامؤاخذة، مافيش حد جنبك.. ده انت من ساعة ما قعدت وانت قاعد لوحدك وعمال تبص على المجاذيب وتضحك وتهمس وكأنك بتكلم نفسك، انت كويس يا حضرت ولا عندك مشكلة في نفوخك؟!
بسرعة بصيت على الكرسي اللي جنبي ولقيته فاضي، برقت وانا مش مصدق، بعد كده قومت وقفت وانا بقول للقهوجي بانفعال..
-يا عم وربنا كان قاعد جنبي هنا راجل عجوز وطيب كده اسمه عم بركة، وبالأمارة كان لابس جلابية بيضا وكان ماسك سبحة في إيده.
برق لي القهوجي وكأنه مصدوم من كلامي..
-عم بركة مين.. عم بركة العطار!.. ده مات من يجي سنتين يا أستاذ، ده راجل مبروك وكان عنده محل عطارة جنبنها هنا، الراجل ده كان متعود تملي يقفل محله بالليل ويجي يسهر هنا قصاد الجامع لحد صلاة الفجر، وبعد كده كان بيدخل يصلي الفجر ويروح بيته، ألا انت كنت تعرفه واتهيألك إنك شوفته ولا انت شوفته بجد زي الناس اللي بيقولوا إنهم بيشوفوه في محيط الجامع ولا ايه؟!
اديت للقهوجي حق الشاي وانا بقوله..
-ولا ايه.. هي ولا ايه دي.
سيبتله الفلوس ودخلت المسجد صليت الفجر وبعد كده روحت، وطبعًا مع وصولي للبيت مالقتش مراتي، الست هانم كانت خدت هدومها وسابت لي البيت ومشيت، وكمان فضلت مصممة على الطلاق لحد ما روحت اتكلمت مع أهلها ولقيت مافيش فايدة لأنها كانت مصممة.. فطلقتها، والغريب بقى في نهاية حكاياتي، إن انا من بعد ما طلقتها ومابيعتش القضية للمحامي إياه، ربنا كرمني أخر كرم.. احنا كسبنا القضية والحمد لله كل اللي شغالين في المكتب اتعرفوا، وبعد كده فتحوا مكاتب لوحدهم بعد ما مرتباتهم زادت، وطبعًا ده اللي حصل معايا انا كمان.. انا فتحت مكتب ليا بعد أقل من سنة، وكمان المحامي اللي كنت شغال معاه لما حكيتله اللي حصل من المحامي المنافس وعرف إن انا رفضت العرض اللي اتعرض عليا منه، ساعدني في إني افتح المكتب وكمان بعتلي موكلين، واديني اهو ربنا كرمني واتعرفت على واحدة ظروفها من ظروفي، ست مطلقة من بعد حوالي سنة من جوازها لأنها ماتفاهمتش هي وجوزها، والحمد لله ماخلفتش منه لأنه كان بيضربها ومطلع عينيها، زي ما انا كمان ما خلفتش من طليقتي اللي كانت بتحرضني على إن انا امشي في السكة الحرام عشان ظروفنا تتحسن، بس الحمد لله.. انا لا سمعت لكلامها ولا لكلام الغريب، ولا مصيري بقى زي مصير التلاتة المجاذيب، انا سمعت لكلام عم بركة اللي ماعرفش هو ظهرلي ازاي او اختفى ازاي.. لكن كل اللي انا متأكد منه إن ظهوره ليا كان طوق نجاة من رب العالمين عشان اختار الطريق الصح واوصل للي انا وصلتله دلوقتي ده، انا دلوقتي متجوز وعندي ولدين ومكتبي الحمد لله ماشي زي الفل لأن سمعتي طيبة ومابمشيش في طريق حرام، وكل ده السبب الأكبر فيه كانت رسايل ربنا ليا اللي اتبعتت لي في الليلة إياها، الليلة اللي شوفت فيها عم بركة والمجاذيب و.. والغريب.
تمت
محمد_شعبان



ليست هناك تعليقات