بجوار ثلاجة الموتي
بعد ما تعبت من كتر التدوير على شغل بالدبلوم اللي معايا، لقيت أخيرًا شغلانة في شركة من شركات الخدمات، هي اه كانت شغلانة على القد ومرتبها قليل، بس اهي.. احسن من مافيش، وعشان كده وافقت وخدت ورقي وروحت قدمت، وبالفعل اتقبلت الحمد لله كعامل نضافة في واحدة من المستشفيات الكبيرة، في الأول حمدت ربنا إن انا لقيت شغل من أساسه، وتاني يوم روحت على المستشفى عشان استلم وردية بالليل، لكن المشكلة اللي قابلتها مع مقابلتي للمشرف بتاعي في الشغل، هي إن انا مش هشتغل كعامل نضافة في أي مبنى من مباني المستشفى؛ انا هشتغل كعامل نضافة في مبنى المشرحة!
وابتدى وقتها المشرف كلام معايا لما قال لي..
-شوف بقى يا سعد.. انت لسه شباب وشكلك كده غلبان وابن حلال وبتسمع الكلام، فعشان كده انا شايف إنك هتستمر معانا هنا، لكن استمرارك من عدمه ده هيتوقف على كام حاجة كده؛ اولهم وأهمهم إنك تسمع الكلام وتقول حاضر ونعم على كل حاجة، وتانيهم إنك تقبل بوردية الليل لأن معظم اللي شغالين في النضافة زي ما انت شايف كده، معظمهم بنات يأما عواجيز، فبنسبة كبيرة معظمهم بيشتغلوا بالنهار وبيرفضوا شغل بالليل، وخصوصًا في مبنى المشرحة المُلحق بالمستشفى.
لما المشرف قال لي كده، بلعت ريقي بقلق..
-مش مش.. مشرحة!.. وانا مالي انا ومال المشرحة يا أستاذ شريف؟!
فَتح دفتر كان ماسكه في ايده وقال لي وهو بيكتب حاجة على الواقف كده..
-ازاي يعني مالك ومال المشرحة، انت من الليلة دي هتستلم الشغل فيها.
قلقي وارتباكي زادوا، ماعرفش ازاي كنت بعرق والجو حواليا برد!.. بس صدقني يا صديقي، لما تسمع إنك هتقضي ليلة في المشرحة مع الأموات وانت خواف زي حالاتي كده، صدقني.. شتاك هيتقلب لصيف ولسانك هيتلجم قبل حتى ما ترفض، وعشان كده قبل ما اقول اي حاجة او اعترض، بص لي استاذ شريف بعد ما قفل الدفتر من تاني ومسكه في ايده..
-انا خلاص اعتمدتك معايا وسجلت اسمك في دفتر العاملين، خد هدومك وروح على المبنى اللي بعد المبنى اللي احنا فيه ده بتلات مباني، وهناك هتلاقي يافطة مكتوب عليها المشرحة، ادخل من الباب واسأل على عمك فهيم، هو اللي واخد وردية النهار، والمفروض إن في عامل بيستلم بالليل، لكنه تعبان وطلب نقله بسبب إن سنه كبير ومابيقدرش يشتغل في البرد بالليل، وانت بقى هتنزل مكانه.. يلا اتكل على الله وروح شوف شغلك يا بطل.. وماتقلقش، عمك فهيم قبل ما يسلمك الشغل هيفهمك كل حاجة، هو راجل طيب وملتزم، يلا يا ابني.. انت هتفضل واقف مبرق لي كده كتير.
كنت بسمع استاذ شريف وانا دماغي مش معاه ولا حتى معايا، انا تفكيري كله كان هناك، في المشرحة!
لكني في النهاية فوقت من سرحاني وخدت هدوم الشغل ونزلت من المبنى اللي كنا فيه وروحت على مبنى المشرحة على طول، وقبل بس ما تقول لي انت ليه مارفضتش او ليه ماقولتش لا، فانا هقولك يا سيدي إن اساسًا ماعنديش رفاهية الاختيار.. انا ما صدقت لقيت شغل، فمستحيل في أول يوم ليا، هقول لمديري لا على حاجة، او هقوله مثلًا مش هروح المشرحة فيقوم ممشيني، وعشان كده انا سكتت خالص وخدت بعضي وروحت على المبنى زي ما قال لي بالظبط.. المبنى اللي اول ما وصلتله وقفت قصاد بابه وانا سرحان مع اليافطة اللي مكتوب عليها أسم (المشرحة)
الكلمة لوحدها تخض، واللي يخض اكتر هو السكوت والضلمة اللي حوالين المبنى!
وقفت لثواني مبلم قدام اليافطة وانا بتخيل ايه اللي ممكن يحصلي او اشوفه خلال الليلة دي، لكني فجأة فوقت من سرحاني على صوت حد بيعيط، بصيت ناحية الصوت اللي كان جاي من ناحية باب المبنى، وساعتها اكتشفت إن اللي بيعيط ده شاب ومعاه شاب تاني بيواسيه، ومن وراهم خرج ظابط من الباب، فضلت باصص عليهم هم التلاتة لحد ما بعدوا عني، وقتها اتشجعت ودخلت من البوابة اللي كان قاعد عليها عسكري، بمجرد ما عرفته على نفسي دخلني وقال لي إن عم فهيم جوة، فدخلت من الباب ومشيت في طُرقة طويلة اوي لحد ما في أخرها لقيت أوضة على اليمين، وبحسب وصف العسكري إن دي الأوضة اللي قاعد فيها عم فهيم، خبطت مرة والتانية لحد ما الباب اتفتح، فتحهولي راجل كبير شكله كده بيقول إنه في الخمسينات، ملامحه جامدة وشنبه كثيف، اول ما شافني بص لي من فوق لتحت وبعد كده قال لي..
-انت بقى سعد المستوظف الجديد؟!
هزيتله راسي بأيوة، فسمحلي بالدخول؛ الأوضة كانت أوضة صغيرة إلى حد ما، روايح الصابون والكلور اللي شمتها فيها اول ما دخلت، كانت بتدل على إن دي الأوضة اللي بيتخزن فيها الصابون والكلور اللي المفروض يعني بيتمسح بيهم الأرض.. في الوقت ده شاورلي عم فهيم إني اقعد على كرسي موجود جنب الباب، وهو راح ناحية شماعة موجودة في ركن كده وجنبها دولاب حديد، خد من عليها قميص لونه أبيض، وقلع قميص الشركة الكحلي اللي هو لابسه، وابتدى يلبس القميص اللي خده من على الشماعة وهو بيقولي..
-الريس شريف اتصل بيا وقال لي إنك هتشتغل وردية ليل، الأوضة دي هي أوضتك، في الدولاب الحديد ده هتلاقي شاي وسخان مايه وكيس سكر، واعمل حسابك من هنا ورايح هتبقى تشتري سكر وشاي لما يخلصوا، وفي الادراج اللي على اليمين تحت دي هتلاقي الصابون والكلور اللي هتحطهم في الجردل ده بعد ما تملاه مايه من الحنفية اللي فوق الحوض ده، وبعد ما تعمل كل اللي قولتهولك، هتاخد الجردل بالمساحة والشرشوبة اللي جنبه، وهتطلع تمسح الأرضية بتاعت الطُرقة لحد برة، واعمل حسابك.. الطرقة بتتمسح بالليل بعد ما بمشي بحوالي ساعتين تلاتة كده، وأوضة التلاجة اللي جوة في الاخر دي، بتتمسح مع الطرقة الصبح قبل ما تمشي لأنها مابتتفتحش إلا لما عامل المشرحة بيكون موجود، والعامل ده بيجي الساعة تسعة الصبح، وانا باجي استلم منك الساعة سبعة، ولو جت اي جثة بالليل هيستلمها العسكري اللي برة وهيقيدها عنده لحد ما العامل يستلم منه، وانت بقى يا سيدي بعد ما هتخلص تنضيف أرضية الطرقة، هتفضل قاعد هنا ومش هتخرج، إلا بس لو دخلت جثة للتلاجة، وقتها انت هتساعد الممرضين او المسعفين وبعد كده هتخرج تنضف الطرقة تاني لو اتوسخت وترجع تقعد في الأوضة، واعمل حسابك.. طول ما مافيش جثث داخلة او ماسمعتش صوت برة ماتخرجش، سامع اللي بقولك عليه!.. مافيش خروج ولا مرواح ناحية باب أوضة التلاجة لا نلبس مصيبة.. الدكاترة هنا شُداد ودي تلاجة مشرحة وكلها بلاوي، الباب مابيتقفلش كويس وبيفضل متوارب، فانت ماتقربش منه ولا تيجي ناحيته من اصله إلا مع العسكري والمسعفين او الممرضين لو هتساعدهم في دخول جثة ولا حاجة، غير كده ماتقربش منها ولا تعمل حاجة أزيد من اللي قولتها لحد ما اجيلك.. فاهم ولا اعيد تاني؟!
هزيت له راسي تاني وانا بقوله..
-فاهم.. فاهم يا عم فهيم.
وقتها كان هو خلص لبس وجهز نفسه وراح ناحية باب الأوضة اللي فتحه وهو بيقولي..
-جدع يا قلب عمك فهيم، بالأذن انا بقى، سلامو عليكو.
مشي عم فهيم وسابني قاعد لوحدي، والمفروض إن انا هفضل قاعد القعدة دي ساعتين او تلاتة كمان لحد ما اقوم انضف أرضية الطرقة، وعشان اسلي نفسي او اعمل اي حاجة انشغل بيها في الوقت ده، طلعت موبايلي وفضلت العب عليه اي لعبة عبيطة كده لحد ما فات حوالي ساعة وشوية، في الوقت ده قومت من مكاني وغيرت هدومي ولبست القميص اللي استلمته من الشركة، وبعد كده روحت ناحية الجردل ومليته ماية، وخدت شوية صابون على شوية كلور وحطتهم فيه، وخدت المساحة والشرشوبة الكبيرة اللي كانوا جنبه وخرجت للطرقة، مَسحت الأرضية كويس ونضفتها، من عند باب المدخل بتاع المبنى اللي بيتكون من دور واحد بالمناسبة يعني، لحد قبل باب الأوضة الكبيرة اللي في اخر الطرقة، واللي يبقى طبعًا باب أوضة التلاجة زي ما قال لي عم فهيم، بس ماعرفش ليه بعد ما خلصت تنضيف وقبل ما ادخل الأوضة اللي المفروض هقعد جواها لحد الصبح، في حاجة كده شدتني وخلتني ابص ناحية باب أوضة التلاجة المتوارب، الباب كان عريض اوي، وعبارة عن ضرفتين بيتفتحوا مع بعض زي ابواب عنابر المستشفيات، المكان حواليه ومن جواه كان ضلمة والمفروض انه ثابت وساكن؛ يعني مابيتحركش، لكن في اللحظة اللي كنت مركز معاه فيها، اتهيألي إنه اتحرك او إن مثلًا في حد واقف جوة الأوضة، وعمال يزق الباب بالراحة وعشان كده بيتحرك!
فضلت مبرق وانا باصص على الباب بذهول لثواني.. ثواني فوقت منهم على صوت رنة موبايلي، فدخلت الأوضة وحطيت الجردل وطلعت التليفون، كانت أمي اللي بتتصل بيا، رديت عليها وطمنتها عليا وقولتلها في نهاية المكالمة إني بأذن الله هلتزم في الشغل عشان اقدر اكفي مصاريف مدرسة اختي الصغيرة.. اختي اللي مابقالهاش حد غيري انا وامها من بعد وفاة ابويا من حوالي سنة، وفي النهاية وبعد ما خلصت كلام مع أمي، رميت الماية اللي في الجردل جوة الحوض، وحطيته مكانه وحطيت جنبه ادوات التنضيف، وروحت ناحية الدولاب اللي لقيت جواه كوباية أزاز وكيس شاي وكيس سكر وغلاية ماية صغيرة زي ما عم فهيم قال لي، طلعت الحاجات دي من الدولاب وعملتلي كوباية شاي وقعدت اشربها بمزاج لحد ما خلصت، بس بعد ما خلصتها، فجأة حسيت إن راسي تقيلة ومحتاج انام، اه.. انا من الناس اللي عادي جدًا ممكن تشرب شاي او قهوة وتنام بعدهم، فعشان كده.. سحبت الكرسي التاني اللي موجود في الأوضة وفردت رجلي عليه وانا قاعد على الكرسي الأولاني وغمضت عيني، قولت بيني وبين نفسي كده ارتاح شوية لحد ما اسمع اي صوت من برة، او اكيد يعني انا لو نمت وروحت في النوم اوي يعني.. اكيد العسكري لو احتاجني في اي حاجة هيخبط على الباب، بس قبل ما اغمض عيني او حتى اروح في النوم، فجأة سمعت في الطرقة صوت.. هو ماكنش صوت لناس بيدخلوا جثة او حتى اصوات ناس كتير، ده كان صوت حد بيتمشى في الطرقة رايح جاي، والغريب هنا بقى إن الصوت كان واضح اوي وكأن اللي بيتمشى برة ده كان قاصد يسمعني صوت خطواته!
في الأول ماخدتش في بالي وقولت يا واد يا سعد كبر دماغك ونام، انت اكيد يعني في مشرحة ووارد انك تسمع حاجة كده.. او تشوف حاجة كده، فانت خليك في حالك ونام، واهو لو حد احتاجلك اكيد هيخبط على الباب، لكني في اللحظة دي وقبل ما ابدأ احاول انام، سمعت على الباب صوت خبطات مش قوية اوي، حاولت اتجاهلها.. لكنها ماكانتش بتسكت، فجه في بالي إن العسكري واقف برة وعاوزني في حاجة، قومت من مكاني وروحت ناحية باب الأوضة اللي بعد ما فتحته مالقتش حد برة، بصيت شمال ويمين في الطرقة على أمل اني الاقي الشخص اللي خبط ده، لكن مافيش، ده حتى باب المشرحة الرئيسي مقفول من برة، والعسكري كان باين إنه قاعد قدامه لأن الباب كان فيه حتت صغيرة كده مفتوحة وبتبين اللي برة!
استغربت بصراحة من اللي سمعته وكنت ناوي ادخل الأوضة تاني واقفل الباب ورايا، بس قبل ما اعمل كده، لفت نظري صوت تزييق باب.. والصوت ده لما بصيت على المكان اللي جاي منه، اتفاجأت إنه جاي من عند باب أوضة التلاجة اللي لقيت نورها منور على عكس ما كان قبل ما ادخل، الله!.. طب ازاي بقى، انا لسه من شوية باصص على الأوضة وكانت مضلمة!
الفضول والحيرة في الوقت ده؛ خلوني اتمشيت بخطوات بطيئة لحد ما روحت ناحية الباب اللي لقيته متوارب، كانت دي اول مرة في حياتي اقف قصاد باب تلاجة جواها ميتين، انا ابويا اه مات ووقفت في غسله ودفنته، لكنه اتغسل واتكفن في البيت لأنه كان مريض ومات وسطنا، لكن إن انا اقف قصاد باب أوضة جواها تلاجة ميتين، ده الوضع اللي عمري ما كنت اتخيل إن انا اتحط فيه ابدًا، بس انا كنت هعمل ايه يعني، ما انا لازم اشوف مين اللي نَور النور.. وعشان كده شجعت نفسي ومديت ايدي وابتديت افتح الباب بالراحة وانا بقرا قرأن، واول من الباب اتفتح شوية وشوفت اللي جوة الأوضة، رجليا كلبشوا في الأرض.. يتبع
(ده الجزء الأول من قصة بجوار تلاجة الموتى.. )
#محمد_شعبان
#بجوار_تلاجة_الموتى
بجوار تلاجة الموتى
٢
الفضول والحيرة في الوقت ده؛ خلوني اتمشيت بخطوات بطيئة لحد ما روحت ناحية الباب اللي لقيته متوارب، كانت دي اول مرة في حياتي اقف قصاد باب تلاجة جواها ميتين، انا ابويا اه مات ووقفت في غسله ودفنته، لكنه اتغسل واتكفن في البيت لأنه كان مريض ومات وسطنا، لكن إن انا اقف قصاد باب أوضة جواها تلاجة ميتين، ده الوضع اللي عمري ما كنت اتخيل إن انا اتحط فيه ابدًا، بس انا كنت هعمل ايه يعني، ما انا لازم اشوف مين اللي نَور النور.. وعشان كده شجعت نفسي ومديت ايدي وابتديت افتح الباب بالراحة وانا بقرا قرأن، واول من الباب اتفتح شوية وشوفت اللي جوة الأوضة، رجليا كلبشوا في الأرض؛ انا شوفت قصاد ادراج التلاجة بالظبط، واحدة ست عجوزة، جسمها او الاجزاء اللي باينة منه كان لونها أزرق، ضهرها محني وشعرها الابيض الأكرت نازل على وشها بحيث إنه كان مخليني مش قادر اشوف ملامحها بشكل كامل، وعلى جسمها كان ملفوف ملاية بيضا مليانة بقع سودة مش حمرا.. يعني مش مبقعة بدم مثلًا، لا لا.. دي كانت بقع سودة وكأنها طينة، بس تعرف.. ده كله مش اغرب من اللي كانت ماسكاه، الست دي كانت ماسكة في ايديها دراع.. ايوة دراع بني أدم مقطوع وعمال ينزل دم، رفعت الدراع بإيديها اليمين وابتدت تاكل منه، في اللحظة دي بقى انا كنت حرفيًا خلاص بنهار، جسمي اتخشب في مكانه وريقي نشف لدرجة إن انا مابقتش قادر اتكلم، ورجليا اللي كانوا ثابتين في الأرض بشكل غريب ابتدوا يترعشوا لدرجة اني كنت هقع على الأرض، لحظات مرت عليا وانا مبرق للمصيبة اللي قدامي دي وجسمي كله بيترعش، لحد ما فجأة وبدون اي مقدمات، لقيت الدراع اللي الست ماسكاه ده ابتدى يتحرك، وكف الإيد اللي كان في نهاية الدراع ابتدى يمسك الست من رقبتها ويخنقها، ومع خنقته ليها صرخت بعلو صوتها وبصت ناحيتي ورفعت إيديها، كانت بتشاور عليا وهي بتصرخ وكأنها بتستنجد بيا.. لكن مين اللي يستنجد بمين، انا كنت عاوز حد يجي يشيلني من قدامها، حاولت اتحرك او اقرا اي قرأن او اعمل اي حاجة، بس مافيش، انا حرفيًا جسمي بالرغم من إنه كان بيترعش غصب عني، إلا إني ماكنتش قادر اتحكم فيه ولا حتى قادر اتكلم، بس في ثانية قطع كل ده الست اللي ابتدت تقرب مني بسرعة ومرة واحدة مسكت الدراع بقوة وشالته وحدفته في وشي، وقتها بعدت عن الباب اللي كنت فاتحه بجسمي عشان يرجع يتوارب زي ما كان، وانا اقع على ضهري، زحفت لورا نص الطرقة تقريبًا وانا لسه مبرق للباب.. فضلت كده لحد ما قومت وطلعت جري ناحية باب المشرحة، خبطت خبطات سريعة وقوية لحد ما العسكري فتحلي، واول ما فتح وشافني، بص لي وهو مستغرب اوي وسألني بلهجة صعيدية..
-مالك يا ابن عمي بتخبط كده ليه، وبعدين انت وشك اصفر كده ليه وبتاخد نَفسك بالعافية!
بلعت ريقي بصعوبة طبعًا ورديت عليه وانا بحاول اصلب طولي..
-جوة.. قصاد التلاجة، في ست.. ست عجوزة ماسكة دراع.. دراع ميت وبتاكله.
قولتله كلامي ده وشاورت على باب التلاجة، دخل العسكري وراح ناحيته وانا واقف مكاني، بس الغريب بقى إن انا لما بصيت على الأوضة وقت ما العسكري كان رايحلها، اكتشفت إن نورها مقفول!
راح العسكري للأوضة اللي فتح بابها ونور نورها وبعد كده سمعته بيقول من بعيد..
(لا حول ولا قوة إلا بالله.. هم بيبعتولنا مجانين يشتغلوا معانا ولا ايه؟!)
قفل النور تاني وخرج من الأوضة اللي بابها اتوارب تلقائي وراه وجه ناحيتي وهو بيقولي بصوت عالي..
-فين الست دي يا عم انت، انت كنت بتحلم ولا ايه؟!
في الوقت ده كانت أثار الخضة ابتدت تروح، وابتديت استجمع قدرتي على التحكم في جسمي من تاني وانا بقوله..
-والله العظيم ابدًا.. والله العظيم ما نمت، انا كنت قاعد في الأوضة وسمعت صوت لخطوات حد في الطُرقة وبعد كده الباب خَبط عليا، ولما قومت وفتحت عشان اشوف مين، مالقتش حد، بس لقيت نور أوضة التلاجة مفتوح، ولما روحت ناحيتها وفتحتها، لقيت الست العجوزة اللي قولتلك عليها دي، واقسملك بالله انا ما كدبت في ولا حرف من اللي قولتهولك.
بص العسكري للأوضة، وبعد كده رجع بص لي تاني وقال لي وهو بيحط ايده على كتفي وكأنه بيواسيني او بيحاول يهون عليا..
-انا عارف انها اول ليلة ليك هنا، انا برضه كنت كده في اول ليلة، اتهيألي حاجات شوفتها وحاجات سمعتها، ومشيها اتهيألي عشان ليلتك تعدي.. بس من بعد كده مابقتش اشوف حاجة، استهدى بالله وادخل الأوضة وشغل قرأن، واياك تركز مع اي حاجة تسمعها او تشوفها على الأقل الليلة دي وبس، الليلة دي وبس.. وأكد لك إنك بعد كده هتتعود.
لما قال لي كده بصراحة كلامه ما أقنعنيش، انا مستحيل ادخل الأوضة دي تاني لوحدي، وعشان كده رديت عليه وقولتله وانا بقعد على الأرض جنب باب المشرحة من برة..
-لا مش هدخل.. انا هفضل قاعد جنبك كده لحد ما النهار يطلع، ولو جت جثة ومحتاجلي ادخلها معاك، فانا قاعد اهو وهساعدك.. انا كده كده اصلًا وجودي جوة مالوش لزمة، ف ليه بقى ادخل واشوف اللي شوفته ده تاني.
وبصراحة العسكري كان شكله طيب وابن حلال، فابتسم في وشي وقفل باب المشرحة وناولني كرسي وفضلت قاعد جنبه وفضلت ادردش معاه في امور الحياة والدنيا عشان انسى اللي انا شوفته في أوضة التلاجة لحد الصبح، ومع طلوع النهار اطمنت وحمدت ربنا إن مافيش جثث جت يومها عشان ادخل تاني بالليل، والحمد لله الليلة دي من بعد الموقف اللي حصل لي فيها عدت بسلام، وعلى الساعة ٧ الصبح كده، جه عم فهيم واستلم مني، بس قبل ما اسلمه قولتله إن انا هدخل امسح ارضية أوضة التلاجة بس لازم هو يبقى معايا عشان انا خايف ادخلها لوحدي حتى لو بالنهار، ولما سألني عن سبب خوفي، حكيتله على اللي شوفته، والحقيقة هو ماكنش له اي رد فعل، لا خاف ولا اتعصب ولا حتى قال لي إن انا كنت بتخيل مثلًا، هو بعد ما سمع مني كلامي اللي قولتهوله، قال لي..
-ابقى شغل قرأن وماتبقاش بعد كده تفتح باب الأوضة بالليل.
وبالفعل دخلت معاه ومسحت الأرضية، بعدها خرجت مسحت الطرقة وغيرت هدومي وخدت بعضي وروحت، بس وانا خارج من باب المشرحة، فجأة لقيت حد مسكني من دراعي، كان شاب شكله باين انه متضايق او زعلان، اول ما مسكني قال لي بسرعة وهو بيمد لي ايده بفلوس..
-بما إنك شغال جوة، ماتعرفش تخلصلنا تصريح الدفن وتخلينا ندخل المغسلة اللي معانا عشان نغسل جثة المرحومة ونسلم الأمانة للي خالقها، ما انت عارف إن اكرام الميت دفنه، وهي يعني في التلاجة من اول امبارح، ده غير انها اساسًا كانت في الشارع بقالها كام يوم والاسعاف هي اللي جابتها ميتة لحد هنا.
بصيت للفلوس وبعد كده رجعت بصيتله، ساعتها افتكرته.. ده الشاب اللي كان بيواسي الشاب التاني اللي كان بيعيط بالليل، ايوة دول اللي انا شوفتهم قبل ما ادخل المشرحة، وشوفت الظابط خارج وراهم، واكبر دليل على ان استنتاجي صح، هو اني لقيت الشاب اللي كان بيعيط واقف على الرصيف المقابل للمشرحة وجنبه راجل كبير بيواسيه وهو بيعيط، وكان معاهم واحدة ست ماسكة في ايدها كفن!
بصيت للشاب وقولتله وانا برجع ايده بالفلوس..
-لا والله انا ماعرفش اطلع تصريح دفن، التصاريح وكل الحاجات دي اللي بيسلك فيها هو العامل او الموظف اللي بيجي الساعة تسعة، انما انا.. انا عامل نضافة ودي اول ليلة ليا في المخروبة دي، انا آسف والله كان نفسي اساعدك، لكن.. لكن اعذرني، انا حقيقي مش هعرف.
رجع الشاب الفلوس لجيبه وقال بنبرة حزن..
-انا عارف انها مش هتندفن بالساهل، الله يرحمك ويسامحك يا مرات عمي، كله من أعمالك.. مُصرة تبهديلنا وانتي عايشة ووانتي ميتة.
لما قال كده بصراحة الفضول حركني، ومش بس الفضول، ده كمان المشهد اللي شوفته في اوضة التلاجة بالليل خلاني اقوله بكل تلقائية..
-استهدى بالله كده بس وادعيلها بالرحمة، وبعدين هي عملت ايه يعني، ما كلنا بنغلط.. اذكروا محاسن موتاكم.
بص لي الشاب والحزن في عينيه..
-محاسن!.. محاسن ايه بس، هي لو ليها محاسن كان ابنها سابها وجه عاش معانا من بعد ما عمي الله يرحمه مات بشهور.. دي يا استاذ كانت بتعمل بلاوي، اصل عمي الله يرحمه كان بيشتغل تربي هو ومراته اللي عندكوا جوة دي، وماكنلهمش الا ابنهم اللي واقف بيعيط هناك ده، هشام ابن عمي.. بعد ما عمي الله يرحمه مات بكام شهر، وفي ليلة من الليالي، خبط باب بيتنا واكتشفنا انه هشام.. هشام اللي قال لنا انه ساب البيت لامه لما عرف إنها بتتاجر في الأعضاء؛ سمعها في مرة وهي بتكلم حد في التليفون وبتقوله انها هتبيعله دراع حد، ولما سكت وراقبها عشان يتأكد من اللي سمعه، اكتشف انها فعلًا باعت دراع من التربة اللي بيندفن فيها الأعضاء المبتورة، ولما خلصت اللي كانت بتعمله وابنها واجهها، قالتله انها بتعمل كده عشان تصرف عليه وتخليه يكمل تعليمه في ثانوي، لكن هو ماوافقش على اللي كانت بتعمله وسابها وجه لعمه اللي هو ابويا يعني وعاش معانا، ومن يومها وهو مقاطعها، ولما حاولت كذا مرة انها تتكلم معاه او تخليه يرجعلها، زعق معاها وقال لها انها مش ممكن تكون انسانة بعد اللي عملته ده، ومن يومها والست اختفت.. لكن ابويا دور عليها في كل مكان من بعد ما مشيت من عندنا ومالقهاش، ومع تدويره وسؤاله عنها، في ناس قالوا لابويا انهم شافوها ماشية في الشارع زي المجاذيب، وحقيقي ماعرفش ايه اللي وصلها لكده، هل بسبب اللي بتعمله اتجننت، ولا بسبب الحزن على إن ابنها اللي سابها، في الحقيقة انا ماعرفش، بس اللي اعرفه كويس اننا دورنا عليها في كل مكان ومالقينهاش، فابويا افتكر انها ممكن تكون ماتت او جرالها حاجة وكلام الناس اللي سمعه كدب، او ممكن يكون حقيفة وهي فعلًا بقت مجذوبة، وعشان كده ابويا بلغ الشرطة عشان لو لقوها في كل الحالات يبلغونا، بس للأسف لما بلغونا قالوا لنا انهم لقوا جثة واحدة ست متجمدة من البرد تحت كوبري من الكباري، والست دي كانت بنفس المواصفات اللي ابويا مبلغ عنها، ولما جابوا هشام امبارح عشان يتعرف عليها، اتعرف عليها فعلًا وقال لهم انها امه.. فقالوا له إنه يجي يستلم جثتها بكرة ويطلعلها تصريح دفن لأن الدنيا كانت ليل، وادينا اهو.. واقفين ومستنين ان الموظف يجي زي ما انت قولتلي عشان نخلي المغسلة تغسلها وناخدها ندفنها.
لما الشاب خلص كلامه انا كنت في دوامة، الدنيا لفت بيا وحسيت إن انا خلاص هقع من طولي، لكني في النهاية تماسكت وطبطت عليه وقولتله ربنا يرحمها، وبعد كده خدت بعضي وروحت جري على مقر الشركة وقولتلهم إن انا مستحيل اشتغل في المستشفى دي تاني، ولو عاوزينني استمر معاهم، فممكن ينزلوني اي موقع تاني غير المستشفيات والمشارح، والحمد لله الناس في الشركة كانوا طيبين ونزلوني في موقع كويس؛ عمارة استلمت فيها الشغل وردية نهار، والحمد لله اشتغلت فيها وربنا كرمني وبقيت بقبض مرتب اعلى كمان من اللي كنت هقبضه في المستشفى، اه ما انا نزلت في العمارة فرد أمن مش عامل نضافة زي ما كنت بشتغل في المستشفى، لكن خليني اقولك بقى ان الحكاية مانتهتش لحد كده.. انا اه سيبت المشرحة بحواراتها وعفريتة او قرينة الست اللي شوفتها وهي ماسكة الدراع، وطبعًا فهمت معنى اللي انا شوفته منها ليلتها، من حكاية الشاب اللي قابلته برة بعد ما الليلة دي خلصت، لكن خليني اقولك ان انا لحد النهاردة، وفي ليالي كتير جدًا بقوم مفزوع بسبب إن انا بشوفها في كوابيسي، بشوفها بنفس هيئتها وشكلها، وفي ايدها نفس الدراع اللي بمجرد ما بترميه في وشي، بقوم من النوم وانا مفزوع...
تمت
#محمد_شعبان
#بجوار_تلاجة_الموتى
التعليقات على الموضوع