كفن حرير
انا ست من قرية ريفية، متجوزة وعايشة في شارع معظم بيوته هي بيوت أهل جوزي.. من فترة شاب من عيلة جوزي، اتجوز من بنت.. البنت دي معظم حريم العيلة ماكنوش بيحبوا يختلطوا بيها او يقعدوا يتكلموا معاها، ولو هتسألني ليه.. فانا هاقولك إن البنت دي تبقى مغسلة بنت مغسلة، ايوة زي ما انت فهمت كده بالظبط، مغسلة أموات!
بس على عكس كل حريم العِيلة بقى، ولأنها كانت ساكنة في البيت اللي جنب بيتي على طول، فانا بصراحة ماكنتش بخاف منها ولا حتى كنت بتحاشاها، بل بالعكس بقى... انا علاقتي بيها كانت في الأول علاقة سطحية اه.. يعني كبيرها صباح الخير، صباح النور، إنما مع الوقت ومع قربنا من بعض اكتر، بدأنا نبقى صحاب، يعني تقدر تقول كده إنها بقت بتقعد معايا طول النهار تقريبًا، واول ما جوزي وجوزها ينزلوا أشغالهم، كنا نخلص توضيب البيت وعمايل الأكل، وبعد كده كنا بنقعد سوا عندي في البيت، وشهادة لله.. البنت كانت قمة في الأدب والأخلاق والتدين، وعشان كده حبيت إنها تبقى صاحبتي وبقيت بتعامل معاها كأخت، ومع مرور الايام وقربنا من بعض، وفي مرة كنت قاعدة انا وهي بنتكلم مع بعض، يومها فضولي خلاني اسألها سؤال غريب جه على بالي فجأة كده..
-بت يا وردة.. الا قوليلي صحيح يا بت، بما إنك يعني مغسلة أموات بنت مغسلة أموات، عمرك يعني يا بت كده ماشوفتي حاجة غريبة وانتي في بتغسلي اي واحدة ست من اللي غسلتيهم؟!
بصت لي وردة في الأول باستغراب وبعد كده بصت لي وضحكت وهي بتقولي..
-الله يجازي شيطانك يا ست ام ناصر، هو انا هشوف ايه يعني، دول أموات.
قربت منها وسألتها باهتمام..
-يعني يابت.. ماشوفتيش حاجة كده ولا كده، يعني حاجة من الحاجات اللي بنسمع عنهم في الحكايات.
سرحت شوية وبعد كده جاوبتني..
-ااه.. لو قصدك يعني ميتين بتتحرك او حاجات زي اللي كنا بنسمع عنها من أجدادنا زمان، فخليني اقولك لأ.. انا اه شوفت في حياتي كتير، سواء بقى كانت علامات من حسن الخاتمة او سوء الخاتمة، إنما عفاريت وميتين بيطلعوا في الأحلام وكده، فلأ.. ماشوفتش، إنما في الحقيقة يعني...
-ايه.. إنما ايه يا بت؟!
جاوبتني وهي بتسرح وكأنها بتفتكر..
-في الحقيقة أمي الله يرحمها هي اللي شافت.
اول ما قالت كده سألتها بلهفة..
-شافت ايه.. احكيلي.
قربت مني وردة وابتدت تحكيلي..
-انا ياست ام ناصر وزي ما انتي عارفة يعني، ابقى مغسلة بنت مغسلين، ابويا كان بيغسل الميتين الرجالة، وامي كانت بتغسل الستات، ومع كبر سني ومرض امي، ابتديت احضر معاها كذا غسل عشان اتعلم منها وابقى زيها، وده يعني لأنها كانت كبرت ومابقتش تقدر على الشغل زي زمان، وفي مرة من المرات، حضرت معاها غسل لواحدة ست كانت بسم الله ماشاء الله، وشها كان مبتسم كده وغُسلها كان سهل وخفيف على القلب، لكن يومها لما روحت البيت وسألت امي عن الست دي وعن سبب الابتسامة اللي كانت ظاهرة اوي على وشها بوضوح، جاوبتني وقالتلي..
(شوفي يا بت يا وردة.. طالما هتشتغلي في شغلانتنا دي، يبقى لازم تعملي حسابك إنك ياما هتشوفي زي ما انا ياما شوفت، اه.. ما انا ياما شوفت من الأموات، شوفت كتير.. اللي وشها بيبقى متضايق ولونه ولاعيوذبالله أسود ومكشر، واللي زي الحاجة اللي كنا بنغسلها النهاردة دي، وشها أبيض وضحكتها منورة وكأنها شافت عملها الصالح قصاد عينيها، بس تعرفي يا بت.. مهما غسلت وشوفت، عمري ما هشوف في حياتي ابدًا زي اللي حصل للولية بتاعت الكفن الحرير)
لما امي قالتلي كده، سألتها عن الست صاحبة الكفن الحرير دي، فجاوبتني وحكت لي حكايتها لما قالتلي..
(شوفي بقى.. في الوقت ده كان عندك تلات سنين، يومها جالي البيت واحد من أهل البلد، كان راجل محترم اوي وكل البلد بتشهد له بالاخلاق.. امه من بعد موت ابوه، فضلت بتشتغل وعاشت عشان تربيه وبس، لا راحت اتجوزت وجابت له جوز أم، ولا رمته لأهل ابوه.. دي حافظت عليه وكبرته وعلمته لحد ما اتجوز وخلف، وطبعًا بعد جوازه، خلاها تعيش معاه هو ومراته وعياله لأنها مالهاش حد في الدنيا غيرهم، فالراجل المحترم ده جالي يومها البيت وقال لي إن امه ماتت، جالها غيبوبة وعقبال ما نقلوها المستشفى كانت ماتت، والمفروض إنه كان جايلي عشان اروح اغسلها في أوضة الغسل اللي في مشرحة المستشفى، فسيبتك انا يومها مع ابوكي ولبست العباية السودة والطرحة اللي بنفس اللون وروحت معاه، وهناك وعلى باب الأوضة، لقيت مرات الراجل ده واقفة هي وبنته وابنه.. ماهو بنت الراجل كانت شابة كده زيك يا بنتي، على عكس ابنه بقى اللي كان عيل الصغير، بس تعرفي.. انا اللي لفت نظري مش الراجل ولا عياله، انا اللي لفت نظري كانت مراته، ست كده واقفة مبوزة ورافعة مناخيرها في السما، اول ما شافتني بصت لي من فوق لتحت وبعد كده بصت لجوزها وقالتله..
-هي دي بقى المغسلة؟!
هزلها راسه في خضوع يابنتي ومانطقش بحرف، بس هي بقى ماسكتتش، دي قربت منه وقالتله بصوت مسموع..
-برضه يا حافظ.. برضه جيبت لها الكفن الحرير، انت مش شايف إن احنا أولى بالفلوس، ما كنت جيب لها أي كفن وخلاص.. ولا لازم يعني كفن حرير زي ما أمرت!
لما الست قالت لجوزها كده، ملامحه اتغيرت وقال لها بزعيق..
-جرى ايه يا ام كرم، احنا اللي هنقلبه هنعيده واللي هنعيده هنزيده، قولتلك امي الله يرحمها مش هتتكفن غير في كفن حرير زي ما كانت عايزة، دي وصيتها الله يرحمها، وبعدين هو انتي دافعة لها حق الكفن من جيب ابوكي؟!
لما حافظ قال لمراته كده، بلعت لسانها وسكتت، كل ده وانا واقفة ساكتة، استنيتهم لحد ما خلصوا كلامهم وبعد كده قربت منه وقولتله..
-ماتأخذنيش يعني يا أستاذ حافظ وبعيدًا عن مشاكلكم دي يعني، هي الحاجة بتاعت الغسل جاهزة؟!
جاوبني وهو بيبص ناحية الأوضة اللي هغسل فيها..
-اه يا ام وردة، انا قبل ما اروحلك البيت كنت جايب كل حاجة حتى الكفن.. وماتستغربيش لو لقيتي الكفن حرير، امي الله يرحمها كانت موصياني إن لازم اكفنها في كفن حرير، وانا بصراحة ماكنش عندي في الدنيا دي أعز منها، فماقدرش اكسر وصيتها.
بصت له وابتسمت لأنه ابن بار، طمرت فيه تربية امه اللي ربتها له، بس بعد ما مقال لي إن كل حاجة جاهزة، سألته سؤال طبيعي وتلقائي يعني في المواقف اللي زي دي..
-طيب يا اخويا.. ربنا يخليك ويطول في عمرك، مين بقى اللي هيدخل معايا من أهلها وانا بغسلها، ماهو أنا اكيد هعوز اي واحدة ست معايا من أهل المرحومة عشان تساعدني في الغُسل.
بص حافظ لمراته وقال لها بضيق..
-يلا عشان تخشي مع ام وردة.
فبصت له وهي مبرقة وقالتله..
-ايه.. اخش مع مين؟!.. لا لا لا.. انا مش هخش ولا هحضر الغُسل انا، انا.. انا بخاف، اه بخاف.
قرب منها حافظ وزعق فيها....
-ازاي يعني مش هتخشي، اومال مين اللي هيقف على غُسل امي، ما انتي عارفة إنها مالهاش لا اخوات ولا قرايب، ايه.. هدخل اقف انا على غُسلها يعني؟!
في الوقت ده اتدخلت بنتهم الشابة وقالت لابوها..
-لا يا بابا طبعًا، تدخل ازاي يعني.. انا اللي هدخل مع الحاجة وهساعدها في تغسيل تيتا.
اتدخلت امها وقالتلها بضيق..
-اقفي هنا.. تدخلي فين، ستك اللي كنتي بتحبيها خلاص ماتت، واللي جوة دي تبقى جثة، انتي عايزة تتلبسي ولا تجيبيلي مصيبة.
البت ماهتمتش بكلام امها وقربت مني وقالتلي بابتسامة..
-يلا يا حاجة عشان نغسل تيتا.
وفعلًا دخلت انا وهي الأوضة بعد ما خدت مفتاحها من عامل المشرحة اللي كان قاعد قصادنا، بس وانا داخلة كنت سامعة حافظ بيقول لمراته..
-البت الصغيرة عندها دم عنك، والله انتي خسارة فيكي كل الحب اللي كانت بتحبهولك.
بصراحة ماركزتش معاهم اكتر من كده، انا دخلت انا والبت الأوضة وقفلنا ورانا بالترباس، الدنيا كانت نهار والنور كان منور كمان، فالموضوع ماكنش يخوف ولا كان في أي حاجة تقلق.. قلعت طرحتي وطلبت من البنت إنها تشيل البطانية من على جسم ستها، وفعلًا شالتها وانا حضرت الحاجات اللي هغسلها بيها وقربت منها، الست شكلها كان عادي.. ملامح وشها كانت بتدل على إن اللي قصادي دي ست نايمة مش ميتة!
حطيت إيدي على جبهتها وابتديت اقرا أدعية من اللي بتتقال وقت الغسل وكنت لسه هغسلها، بس فجأة اتثبتت في مكاني لما حسيت إن جسمها سخن!
ازاي يعني جسمها سخن ولين بالشكل ده وهي ميتة!
ماخدتش في بالي وقولت إنها جايز تكون لسه ميتة من وقت قليل، فكملت وابتديت اغسلها بمساعدة بنت ابنها، لحد ما في لحظة ابتدت إيديها تتحرك حركات بسيطة!
وقتها البت لاحظت حركة الإيد وبصت لي وهي مبرقة..
-ايه ده يا يا يا حاجة ده.. هي تيتا حركت إيديها ولا انا بيتهيألي؟!
ماحبتش اخوفها، انا طمنتها وبصيت لها وابتسمت وقولتلها بكل هدوء..
-لا لا يا حبيبتي، ماتخافيش.. انتي بس تلاقيكي بيتهيألك، وبعدين ما اهي إيديها اهي، ثابتة اهي.
ورَفعت إيد الست وانا بقول كده، عشان أول ما ارفعها الاقيها حركت إيديها وقامت قعدت!!!
اول ما عملت كده انا غصب عني اتسمرت في مكاني لثواني، مابقتش عارفة اجري ولا اصوت ولا اعمل ايه، الميتة صحيت، يا نهارك اللي مش فايت يا ام وردة.. فوقت من خضتي على صوت الميتة وهي بتبصلي باستغراب وبتسألني..
-انا فين.. وحافظ ابني.. حافظ ابني فين؟!
اول ما قالت كده البت بنت ابنها فضلت تصرخ لحد ما وقعت من طولها، اما انا بقى، فانا سيبتها زي ما هي وجريت على باب الأوضة وخرجت وانا بصرخ..
-الحقووني.. الحقووني يا ناس، الميتة اللي جوة قامت من الموت.
وطبعًا كل اللي كانوا واقفين برة اتلموا عليا وكان يوم ما يعلم بيه إلا ربنا)
لما امي وصلت لحد هنا سألتها..
(ازاي ده يا امه بس.. وهو في اموات بيرجعوا من الموت؟!)
ضحكت امي وهي بتقولي..
(أموات ايه اللي بيرجعوا من الموت يا مجنونة يا بنت المجنونة، الولية ماكانتش ماتت من الأساس، دي كان عندها غيبوبة سكر والدكتور افتكرها ميتة وقال لابنها إنها ماتت.. بس تعرفي، مش دي المشكلة بقى، المشكلة الكبيرة إن الست فاقت من غيبوبة السكر اللي كانت فيها والدكاترة علقوا لها محاليل وقامت بالسلامة، اما بنت ابنها اللي صرخت ووقعت من طولها، فدي الدكاترة لما كشفوا عليها وحاولوا يفوقوها، لقوها ماتت.. ايوة والله يا بنتي، الست اللي كنا فاكرينها ميتة فاقت من الغيبوبة، وبنت ابنها هي اللي ماتت، وطبعًا مش محتاجة اقولك إن امها جالها حالة من الانهيار، الولية بقت عمالة تلطم على وشها وتنادي على بنتها وهي بتقول لحافظ جوزها..
-يارتني كنت دخلت انا وهي لأ، ياريت لساني كان اتقطع قبل ما ارفض، ياريتني كنت انا اللي موتت وهي عاشت، يا بنتي.. يا بنتي..
وفضلت تصرخ وتلطم وجوزها بيحاول يهدي فيها، وفي الأخر ايه اللي حصل، الكفن الحرير اللي حافظ كان جايبه لامه، بنته هي اللي اتكفنت بيه، وانا اللي غسلتها وكفنتها بعد ما خالتها جت ووقفت معايا على غسلها، وده لأن امها كانت منهارة وماكانتش قادرة تقف على رجليها، ايوة يا بنتي زي ما بقولك كده.. ده انا كنت بغسل البت وانا بقول بيني وبين نفسي، اهو.. الكفن اللي امك كان مستكتراه في حماتها، بنتها اتكفنت بيه.. ربنا يرحمك يا بنتي ويجعلك مثواكي الجنة)
ولحد هنا بقى يا ام ناصر الحكاية بتخلص، ودي تعتبر الحكاية الوحيدة الغريبة اللي امي الله يرحمها شافتها في حياتها، اما انا بقى.. فانا ماشوفتش حاجات غريبة ابدًا، إلا بس زي ما قولتلك.. علامات حسن الخاتمة او علامات سوء الخاتمة، إنما أموات بيصحوا من الموت وكل الحكايات الغريبة اللي بنسمع عنها دي، ففي الحقيقة ماعدتش عليا.
ولحد هنا بتكون وردة خلصت كلامها، وردة اللي لحد النهاردة صاحبتي وحبيبتي واختي التانية، ومش بس كده.. دي كمان كانت تملي هي اللي بتفكرني بذكر الله والصلاة في وقتها، ماهو اللي اشتغل شغلانة وردة دي وشاف نهايات الناس زي ماهي بتشوفها كده، أكيد مش هيسيب فرض ولا هيشغل باله بالدنيا ولا اللي فيها، ماهي الدنيا كلها رايحة، ومش هناخد منها أي حاجة غير الكفن، وحتى الكفن كمان هنتستر بيه واحنا في قبرنا، يعني مش هينفعنا وقت الحساب حتى لو كان الكفن ده، كفن حرير...
تمت
محمد_شعبان
كفن_حرير
التعليقات على الموضوع