إبحث عن موضوع

رواية وحدك حبيبتي الحلقة 16

حنين و .........

استيقظت ليلى من شرودها حين لكزتها نادية قائلة :
- ليلى ، ليلى .. دكتور عبد الرحمن يتحدث إليكِ
نظرت ليلى إلى دكتور عبد الرحمن الذي يتطلع إليها بضيق وقالت مرتبكة :
- آسفة ، لم أسمعك
تنهد قائلًا بأسى :
- لو كانت المرة الأولى لالتمست لكِ الأعذار
حولت وجهها عنه صامتة فتابع في سخرية مريرة :
- على أية حال ، نحن مجبرون على التماس الأعذار لكِ ما دمتِ قد سقط في فخ هذا الشيط......
قاطعته في غضب :
- من فضلك ، لا تتحدث عنه هكذا ، تذكر أنه زوجي
تأملها طويلًا قبل أن يهتف في تهكم :
- يبدو أن تجربتك تسير في الاتجاه الذي توقعته أنا لها تمامًا
جذبت حقيبتها بعنف وأسرعت تغادر الغرفة غير مبالية بمحاولات نادية للتخفيف من حدة التوتر ، التفتت الأخيرة إلى دكتور عبد الرحمن وهمت أن تعترض لكنها وجدت الألم يكسو ملامحه وهو يغمغم بمرارة وحسرة :
- آهٍ يا ليلى ، خسارتك لن يعوضها أي مكسب آخر !

همت ليلى بصعود الدرج عندما وصل إلى مسامعها صوت حميها يناديها ، فاستدارت إليه وتصنعت ابتسامة باهتة ، لم تقنع الرجل الكبير الذي ربت على كتفها قائلًا :
- ماذا بكِ يا ابنتي ؟
عادت ابتسامتها الباهتة إلى شفتيها قائلة :
- أنا بخير
تعمق بعينيها قائلًا :
- ملامحك لا تقول هذا
تنهدت بضيق قائلة :
- ربما كان ضغط العمل .. لقد اقترب موعد الامتحانات ونحن نستعد لها
ـ امرأة تقدس العمل مثلك ، لا ظني أن متاعبه تؤرقها إلى حد الحزن يا ليلى
ـ بماذا تريدني أن أخبرك ؟
ـ ماذا حدث بينك وبين ممدوح ؟ لماذا لم يأتِ لرؤيتك منذ أكثر من عشرين يومًا ؟
صاحت في غضب :
- أنت تلقي باللوم عليَّ ، أليس كذلك ؟
ـ كلا يا ابنتي ، أنا أعلم أن ولدي ليس ملاكًا
صرخت قائلة :
- ولدك شيطان ، هل تعلم هذا ؟
ابتسم الرجل :
- منذ اللحظة الأولى التي رأيتك فيها يا ليلى ، أيقنت أنكِ المرأة الوحيدة التي تستطيع أن تغيره ، لذلك فعلت المستحيل لأتمم هذه الزيجة ، وما زال يقيني قائمًا .. لن يغير ممدوح سواكِ
هزت رأسها في يأس قائلة :
- أخشى أن أصيبك بالخيبة يا عمي ، ولكن....
انهمرت دموعها وهي تكمل بصوت مختنق :
- أشعر بأنني أغرق في شر أقوى كثيرًا من كل خير داخلي ، أخشى أن أسقط معه بدلًا من أن أقيمه معي ، ما عدت اتحمل .. خارت مقاومتي .. فقدت كل أسلحتي وما عدت أعرفني ..!
ـ أين شجاعتك يا ليلى ..؟ كل ما عليك هو أن تقولي لا ، وأنا أعرف ولدي جيدًا
ـ لا هي المشكلة .. هي ما جعلته يغضب ويثور ويترك المنزل متوعدًا بعدم المجيء إليه إلا بعد أن أقول نعم
نظرت إليه مليًا وأردفت :
- هل أقول نعم ؟ وحتى إذا قلتها ، كم يومًا ، شهرًا ، عامًا ، كم سيمضى معي قبل أن يشعر بالملل والحاجة إلى تبديلي بأخرى
عاد الرجل يربت على كتفها قائلًا :
- الصبر يا ابنتي ، لقد وهب الله ممدوح كل شيء لكنه للأسف بدلًا من أن يشكره ، ترك نفسه أرضًا خصبة للشيطان يفعل به ما يشاء لأعوام عدة ، قاربت الثانية والثلاثين عامًا ، محال أن يتغير كل هذا في أيام قليلة
تطلع إليها ، يبحث في وجهها عما يؤكد صحة ما يقول قبل أن يردف :
ـ لا أريدك أن تقولي نعم ، لكن عندما تقولين لا ، فلتكن بلكنة النساء ، هل تفهمينني يا ليلى ؟

*****

كانت عقارب الساعة قد تخطت الثالثة صباحًا عندما جلس ممدوح في شرفة شقته بمنطقة العجمي ، مسترخيًا فوق أحد المقاعد ورافعًا ساقيه فوق آخر ، نفث دخان سيجارته في بطء وراح يتابعه ببصره محاولًا الفرار من هذه الأفكار الوحشية التي تطارده باستماتة ، أطلق تنهيدة طويلة حين تعلقت عيناه بالسماء في حنين عجز في السيطرة عليه ، القمر وجهها ، والليل ونجومه شعرها وبريقه ، ما أكثر النجوم .. وكل نجم يحمل رسالة منها إليه ، رسالة ترجوه أن يعود ، تأمره أن يعود ، تشده شدًا إليها ، غدًا .... هل يذهب إليها ؟ هل يقبل دعوتها ؟
ربما كبرياؤه الجريح هو ما يوهمه بتلك الدعوة ، ربما كانت نسجًا من أماني ، فهذا هو الأسبوع الثالث على التوالي .. أما زالت عنيدة ؟ أحقًا لا تريد رؤيته ؟ هذه البلهاء التي جمعت كل الصفات معًا في مزج عجيب ، كل المتناقضات أتت عندها وتكاملت وتآخت ، ما أضعفها وما أقواها ! ما أرقها وما أقساها ! العقل والجنون ، الدين والدنيا ، كل الحب وكل البغض ........
ما أرق النسيم وما أعنفه حين يتغلغل إلى العظام ، كيف تسللت هكذا حتى استوطنت جسده ؟!
لقد أمضى طيلة الأسبوعين الماضيين بين أحضان الراقصات وبائعات الهوى عبثًا ، حاول التخلص من رغبته المتوحشة فيها من دون جدوى ، أيقن أن لا رغبة له في امرأة سواها ، لا امرأة يمكنها أن تشغله عنها ، قبلاتها البلهاء بكل نساء العالم ....
زفر بضيق وراح يغمغم ساخطًا :
- ما هذا الذي يحدث لي؟! ما هذه الأفكار الصبيانية التي تراودني في مرحلة ظننتها آمنة من السقوط في براثنهن ؟!
ربما الوضع لا يستحق كل هذا العناء ، ربما ليلى ليست أكثر من نزوة عابرة ، بل أنها كذلك بالفعل ، امرأة له فيها رغبة ما إن يشبعها حتى يتحرر من سطوتها عليه ، ويتخلص من هذه الأفكار المجنونة التي تملأ كيانه وتطارده ليل نهار ، سيذهب غدًا لرؤيتها ، بل لرؤية والديه ، سيهشم رأسها العنيد ويخرج منه كل الأفكار التي تثير جنونه ، سيرغمها على طاعته ، فهي المرأة الوحيدة التي يجب أن تطيعه بلا شروط فهي زوجته ، تعجب لامتنانه لهذا الأمر ، حمد الله لأنها زوجته حتى لا تستطيع الهرب منه ..!
يالسخرية القدر ..! ألم يطلب هو منها مرارًا أن تشكر الله الذي جعل علاقتها به شرعية ..!

دق رنين الهاتف ، تسارعت دقات قلبه في استجابة أدهشته قبل أن تزيده سخطًا ، لا يعقل أن تكون هي ، لديها عمل في الصباح يمنعها من السهر المتأخر لهذا الوقت ، ربما كانت نجوى تتساءل عن سر تحوله عنها في الفترة الأخيرة ، ربما أشرف ، أو ربما عادل أو كمال أو ...
ربما أي شخص آخر ...... إلا هي ، في مثل هذا الوقت ؟!
توقف عن تساؤلاته عندما توقف جرس الهاتف عن الرنين ، شعر ببعض الضيق سرعان ما تخلص منه ، ليست هي ، لابد أنه شخص آخر ، تكفيه إذًا اللحظات القليلة التي أمضاها على رنينه في الخيال ...
عاد الرنين من جديد فأمسك بالسماعة في مزيج من اللهفة والرجاء
تجسد إحساسه وهو يستمع إلى الصمت الذي ساد بينهما ، صمت أحلى من كل كلام يمكن أن يقال ......
قالت أخيرًا في تردد :
- هل أزعجتك باتصالي في مثل هذا الوقت ؟
أغمض عينيه وهو يستمع إليها في حنين لم يحاول إنكاره ، لكنها ما كادت تنتهي من سؤالها حتى قال متعمدًا :
ـ يمكنك الاتصال متى شئتِ يا نجوى
صاحت غاضبة :
- قلت لك مرارًا لا تشبهني بتلك الساقطة
ضحك طويلًا قبل أن يقول :
- كيف صدقتِ أنني قد أخطئ في صوت نجوى على الأقل ؟!
هتفت في مزيد من العصبية :
- إن لم تكف عن ذكر اسمها سأغلق الخط
صاح في لهفة :
- مهلًا ، لن أفعل ، لكن لا تغلقي الخط
أردف هامسًا في شوق ظنت أنها تتخيله من شدة لهفتها إليه :
- هل اشتقت إليَّ أخيرًا ؟
أجابته في تلعثم :
- بل والدك هو من يشتاق إليك
همس في تهكم :
- لم يكن يضنيه هجري من قبل
ـ متى ستكف عن سخريتك ؟
ـ عندما تكفين أنتِ عن الكذب
ـ أنا لا أكذب
ـ ليتني أستطيع أن أرى عينيك الآن
هتفت بعصبية :
- لا تظن أنني اتصلت بك لأقدم فروض الولاء والطاعة
ـ ولماذا اتصلت إذًا ؟
ساد الصمت بينهما حتى غمغمت بصوت مختنق :
ـ حسنًا ، كنت أريد التأكد من كونك لا زلت على قيد الحياة

أغلقت بعدها الخط وانخرطت في بكاء طويل منعها من الاستجابة لرنين الهاتف المتواصل رغم يقينها بكونه هو الذي يحاول الاتصال بها ، ولماذا تجيب ؟ ما الذي يريد قوله ؟ لمَ يصر على إيلامها دائمًا وهي تحبه كل هذا الحب ؟ يا له من ظالم متوحش وكأنه ينتقم منها لأنها أحبته ، ترى هل تألم دكتور عبد الرحمن كل هذا الألم من أجلها ؟ كم كانت سادية وهي تتلذذ بآلامهم جميعًا ..! لم تكن تدري حينها بقسوة ما تفعله بهم ، لكنها الآن .. الآن فقط ذاقت من الكأس التي سقتهم منها ، ويا لها من كأس..!


لم تكن الساعة قد تخطت الثامنة صباحًا عندما فوجئت والدة ممدوح به وهو يدخل إلى المنزل فهتف مبتسمًا :
- صباح الخير يا أمي
احتضنته والدته في سعادة وقبلته قائلة في بعض العتاب :
- ممدوح ، ما كل هذه الغيبة يا ولدي ؟
ابتسم وهو يقبل جبهتها قائلًا :
- ضغط العمل
صاحت المرأة مستنكرة :
- ضغط العمل ..! وهل نسيت عروسك ؟! عندما ترى ما أصابها من حزن لن تغفر لنفسك أبدًا
ابتسم وهو يتجه للدرج :
- لكنها ستغفر
كان قد بلغ منتصف السلم عندما وصل لمسامعه صوت والدته قائلة :
- ليلى ليست بأعلى
ـ أين ذهبت ؟
ـ لقد ذهبت إلى الجامعة
ـ في هذا الوقت المبكر ؟!
ـ قالت أن لديها محاضرة في الثامنة
زفر بضيق وهو يهبط الدرج على مهل ، ربتت والدته على كتفه وابتسمت قائلة :
ـ اغتسل وتعالى لتتناول الفطور معي ريثما تأتي ، فهي لن تتأخر
برقت عيناه وهو يتجه للباب قائلًا :
- ريثما تعدين أنت المائدة ، سأكون قد أتيت بها

*****


انهمكت نادية في قراءة بعض الأوراق على مكتبها عندما ألقى عليها أحدهم التحية فرفعت رأسها نحوه لترد تحيته ، وما لبث القلم أن سقط من يدها وهي تحدق في وجهه بنظرات لم يستطع تفسيرها قبل أن تغمغم متلعثمة :
- صباح الخير
ثم أردفت بسرعة وهي تنهض عن كرسيها كمن يحاول الفرار :
- سأذهب لأحضر ليلى حالًا
أشار إليها بيده :
- مهلًا ، هل تعرفين من أنا ؟
ابتسمت بعصبية قائلة :
- بالطبع ، أنت ممد.... الأستاذ ممدوح سالم ، زوج ليلى
تفحص وجهها قائلًا :
- هل تقابلنا من قبل ؟
هزت رأسها نفيًا فأردف دون أن يرفع عينيه عن وجهها :
- وكيف عرفتني إذًا ؟
ابتسمت في حيرة ثم قالت مرتبكة :
- رأيت صورك المعلقة على الحائط في إحدى زياراتي لـ ليلى
ظل يحدق فيها بريبة فقالت بسرعة :
- سأذهب لأحضر ليلى
عاد يوقفها من جديد :
- لا أريد إزعاجِك ، أخبرينى فقط برقم القاعة و المبنى الذي توجد فيه وأنا سأجدها بنفسي
أخبرته بما يريده بأنفاس لاهثة وهي تتجنب بقدر المستطاع النظر إلى وجهه ، مما زاد من ريبته فيها ، ما إن شكرها وغادر الغرفة حتى ألقت بنفسها فوق كرسيها وتنهدت بعمق مطلقة لأفكارها العنان

وصل ممدوح إلى المبنى الذي أشارت إليه نادية وراح يرتقي درجاته القليلة بخطوات واسعة عندما استدار فجأة على صوت إحداهن تستوقفه :
- أنتَ .... نعم أنت أيها الوسيم
تطلع إليها مبتسمًا فتابعت :
- هل يمكنني مساعدتك ؟
اتسعت ابتسامة ممدوح قائلًا :
- أبحث عن ليلى ، دكتور ليلى فاضل
غمغمت الفتاة فى ساخطة :
- ليلى .. لماذا يسأل الرجال دائمًا عن ليلى ؟!
حدجها في تهكم ولم يعلق .. فأردفت :
- هل تعلم أن ليلى لا تهتم بشيء سوى العمل ؟
ابتسم بثقة قائلًا :
ـ ربما أجبرها على الاهتمام بأشياء أخرى
ـ وهل تعلم أنها متزوجة ؟
ـ نعم أعلم هذا
ـ وهل تعلم أيضًا أن زوجها هو أكثر رجال المنصورة شراسة ووحشية ؟
ضاقت عيناه قائلًا :
- يا إلهي .. إلى هذا الحد ..!
أردفت المرأة في حماسة :
- بل أكثر من هذا ، ربما لو رآك معها لقتلك ، وقتلها هي أيضًا
تفحصها ممدوح وسألها مستنكرًا :
- هل أخبرتكم ليلى بهذا ؟
ـ ولماذا تخبرنا ؟ فهذا الرجل أشهر من نجوم السينما في بلدتنا ؟
شعر ممدوح ببعض الضيق وهم بالمغادرة عندما أردفت من جديد :
ـ لقد حذرناها جميعًا من الزواج منه لكنها كانت مصرة على إجراء التجربة حتى تحصل على الدكتوراة
غمغم في دهشة :
- تجربة ..؟!
ـ نعم من أجل الحصول على الدكتوراة
حاول ممدوح التحكم في انفعالاته :
- هل فسرتِ أكثر ؟
شعرت المرأة بالزهو لكونها نجحت في إثارة اهتمامه فهتفت :
- ألم تخبرك ليلى بأنها تزوجت بهذا المنحرف للحصول على الدكتوراة بطريقة واقعية لم يسبقها إليها أحد ؟
غمغم بصوت مختنق :
- وكيف هذا ؟
ـ ستحاول استغلال ما لها من سحر في إصلاحه وتهذيبه ، سوف تعيد تربيته من جديد ، كلنا في انتظار ما سيؤول إليه أمرها معه
عاد يسألها في مزيج من اللهفة والسخرية :
- تعيد تربيته من جديد ..! ألم تتفقوا على ما ستفعله بعد ذلك ؟
هزت كتفيها قائلة :
- لست أدري ، ربما تطلب الطلاق ، فزوجها كما أخبرتك منذ قليل ، رجل منحل أخلاقيًا ، يسعى خلف شهواته كالحيوان البري ، لا ظني أن ليلى سوف تتحمله كثيرًا ، يدعى ممدوح سالم ، ربما سمعت عنه

تحول البريق الذي راقها في عينيه إلى نار متأججة أثارت فيها الفزع ، لكنها تصنعت اللامبالاة قائلة :
- تخيل أنني لم أتعرف بكَ حتى الآن
أجابها بصوت يشبه الرعد :
- ممدوح سالم
حدقت في وجهه وتراجعت للخلف مذعورة في نفس اللحظة التي أقبلت فيها ليلى وراحت تنظر إليه بسعادة هامسة :
- ممدوح ..!
نظر إليها قائلًا في حدة :
- سأنتظرك بالسيارة
قطبت حاجبيها في دهشة بينما نظرت إليها زميلتها وهي تبتعد في ارتباك قائلة :
ـ آسفة يا ليلى ، لم أكن أقصد ، لم أكن أقصد أبدًا ، لم أكن أعرفه
شعرت ليلى بانقباضة ، هناك كارثة مقبلة بلا شك ، كارثة تستطيع تحديدها بلا عناء ، يا ليتها تكون على خطأ ، ليت الأمر ليس على هذا القدر من الخطورة التي تتوقعها
قاد السيارة صامتًا ، متحاشيًا النظر إليها ، لم تنجح محاولاتها في حثه على الحديث فاستسلمت للصمت هي أيضًا حتى توقفا عند المنزل ، استقبلتهما والدته مهللة :
- سأعد لكم الفطور حالًا
صعد الدرج على عجل وهو يدفع ليلى أمامه في عنف قائلًا :
- ليس الآن
نظرت المرأة إلى ليلى وقالت في قلق :
- ماذا حدث ؟
تابع دفعه لها غير مبال بوالدته وصياحها .. وما إن دلفا إلى حجرتهما حتى أغلق الباب خلفه بعنف وتطلع إليها في وحشية قائلًا :
- لماذا تزوجت مني ؟
لم يعد لديها أدنى شك في صحة ما استنتجته ، أشاحت بوجهها تبحث عما تقول ، لكنه لم يمهلها بل أدارها إليه في مزيد من العنف صارخًا :
- تكلمي
غمغمت في ارتباك محاولة أن تبدو هادئة :
- لقد أخبرتك من قبل بأنه نوع من التحدي
هتف غاضبًا :
- تحدي ، أي نوع من التحدي تقصدين ؟
عادت تشيح بوجهها من جديد ، وعاد يجذبها بعنف أشد :
- هل أشبه فأر التجارب ؟
غمغمت بصوت مختنق :
- ممدوح ، بالله كفى
لكنه تابع في هستيريا :
- هل أبدو أحمق إلى الحد الذي أغراكِ لجعلي أضحوكة بين هؤلاء البلهاء الذين تعملين معهم
ـ لم أكن أعرفك في ذلك الحين
صفعها بقوة صارخًا :
- ولماذا تتزوجين رجلًا لا تعرفينه ؟
تحسست وجهها في ألم صارخة :
- يمكنك أن تطلقني الآن ، فأنت لم تخسر شيئًا بعد
اعتصر ذراعها قائلًا :
- إن كان هذا هو ما تحلمين به ، فأنصحك بأن تستيقظي
تحجر الدمع بعينيها وهو يتابع في قسوة :
- لقد دخلت إلى قفصي بإرادتك ، لكنك لن تخرجي منه إلا بإرادتي أنا ، وأقسم بأنك لن تخرجي منه سالمة يا ليلى
حاولت إزاحته ودموعها تنهمر صارخة :
- كف عن عنفك معي ، لا تعاملني وكأنني رجل مثلك
دفعها أرضًا ، كادت رأسها أن تصطدم بالحائط فهتفت ساخطة :
ـ عندما أذهب إلى عملى غدًا ، سوف ..........
قاطعها في حسم :
- أنت لن تذهبي إلى عملك هذا مرة أخرى
صرخت مستنكرة :
- كلا .. أنا لن أسمح لك بحرماني من عملي ، سوف أذهب إليه ولو دفعت حياتي ثمنًا لهذا
جن جنونه قائلًا :
- حسنًا ، ادفعي بعضه الآن إذًا
وقبل أن تفهم ما يعنيه كان قد حطم وجهها بقبضته وألحق به من التشوهات ما يمنعها من عبور باب الغرفة
فصرخت وهي تنتحب في ألم :
- طلقني أيها المتوحش ، لن أبقى معك بعد الآن
- بل ستبقين ، ستبقين حتى النهاية ، وأنا من سيحدد هذه النهاية ، سأروضك يا ليلى كما روضت غيرك ، وسأبقى رجلك الوحيد شئتِ أم أبيتِ ، سوف تعيشين كأقل امرأة أعرفها
غادر الغرفة صافعًا الباب خلفه ، تاركًا إياها تنتحب ، آلامها الجسدية فوق تحملها وآلامها النفسية أضعافًا ، لقد خسرت كل شيء ، كرامتها وعملها وقلبها أيضًا

******

شهقت نادية فى فزع وهى تحتضن ليلى قائلة :
- لقد أخبرتنى سناء عما حدث أمس ، فشعرت بالقلق وجئت للأطمئنان عليك ، خاصة بعد أن تغيبتِ اليوم عن العمل
حاولت ليلى التحكم في دموعها التي انهمرت رغمًا عنها قائلة بصوت مختنق :
- هل رأيت ما فعله بي هذا المتوحش ؟
ربتت نادية على كتفها في شفقة قائلة :
- اهدئى يا ليلى ، سوف تتحسن الأمور بإذن الله
هتفت في لوعة :
- تتحسن ..! لا أظن هذا ، فهي تزداد سوءًا يومًا بعد آخر ، لقد منعني من الذهاب للعمل ، يحاول تدميرى يا نادية
تنهدت نادية قائلة :
- رجل مثله يمتلك هذا الكم من الكبرياء ، لا شك أنه تلقى صدمة قاسية لدى معرفته بسبب زواجك منه ، وهذه الغبية سناء أخبرته الأمر بطريقة مهينة أكثر ، فهم منها بأننا جميعًا نتآمر ضده
ـ عملي هو آخر ما تبقى لي
ابتسمت نادية في أمل قائلة :
- سأحاول الحصول لكِ على إجازة بحجة التفرغ للدراسة
بادلتها ليلى الأمل :
- هل تظنين أن الأمر سينجح ؟
ـ سينجح بإذن الله ، لكن لا تخبرى ممدوح بذلك حتى تتحسن الأحوال بينكما ، أين هو الآن ؟
غمغمت ليلى بمرارة :
- منذ ذهابه ليلة أمس لم يعد حتى الآن
ـ ربما عاد إلى الإسكندرية
أجابتها شاردة :
- لا أظن هذا ، كان واضحًا أن انتقامه لم ينتهِ بعد
وبينما هما تتحدثان دلف ممدوح إلى المنزل ، خلع سترته وأمسك بها فوق كتفه وقد بدا الإرهاق واضحًا فوق وجهه وعينيه اللتين حدقتا بهما في عداء وضيق ، جلس قبالتهما دون أن يلقي عليهما التحية ، وجه حديثه إلى ليلى وهو ينفث دخان سيجارته قائلًا في خشونة :
- أريد كوبًا من الشاي
حانت التفاتة من ليلى إلى نادية قبل أن تطلق تنهيدة طويلة وتنادي سعدية لتعد له الشاي ، لكنه قاطعها آمرًا :
- لو أردته من سعدية لطلبته منها ، منذ الآن أنت خادمتي الوحيدة هنا
تطلعت إليه بضيق وهمت أن تعترض لولا نظرات نادية المتوسلة لها تناشدها أن تلبي ما طلبه منها ، ذهبت على مضض بينما ظل يحدق فى نادية طويلًا قبل أن ينفث دخان سيجارته قائلًا :
ـ تقابلنا من قبل .. أليس كذلك ؟
غمغمت في اضطراب دون أن تجرؤ على النظر إليه :
- نعم ، أمس عندما ......
- كلا ، لم أقصد أمس
رفعت بصرها إليه وما لبثت أن أبعدته سريعًا وراحت تتلفت حولها وكأنها تبحث عن معين قبل أن تهمس قائلة :
ـ كان هذا منذ زمن بعيد على أية حال
ـ أين اختفيتِ فجأة ؟
ـ فضلت الابتعاد خوفًا من التورط معك بعد أن أخبرتني صراحة بأنك لن تتزوج
تأملها في تهكم قائلًا :
- ظننتكِ انتحرتِ بعد القبلة الأولى
ابتلعت ريقها مستنكرة بينما أردف في لا مبالاة :
- هل تزوجتِ ؟
ـ نعم ، ولدي طفلان
ـ لقد تصرفتِ بحكمة إذًا ، أظن أن هذا من حسن حظك
تنهدت بضيق قائلة :
- نعم ، أظن هذا
ـ لماذا لم تنصحي صديقتك بالابتعاد عن طريقي مثلما فعلت أنتِ ؟
ـ لقد حاولت ، لقد حاولنا جميعًا ، لكنه القدر
هتف ساخطًا :
- القدر ..! القدر أم غرور صديقتك الذي لا حد له ؟
أقبلت ليلى تحمل الشاي ، حدق في وجهها قائلًا :
- ما هذا ؟
ـ الشاى الذي طلبته
ـ لقد طلبت قهوة
استدارت ليلى إلى نادية وكأنها تطلب شهادتها ، فتصنعت الأخيرة ابتسامة قائلة :
ـ لا تجعلا من هذا مشكلة ، يمكنني أنا إعدا ..........
قاطعها في حزم :
- كلا
تنهدت ليلى في ضيق وذهبت مستسلمة لإعداد القهوة ، وما إن ابتعدت حتى نظرت نادية إلى ممدوح قائلة :
- ليلى لا تستحق منك كل هذا
قال والشرر يتطاير من عينيه :
- ليلى ... أنصحك بأن تنسي وجود امرأة بهذا الاسم
هتفت بجزع :
- ليلى تحبك
ـ أهذه خطتكم الجديدة ، كم عدد المشتركين فيها ؟
ـ لا تكن متعنتًا ، ربما أخطأت ليلى بالفعل ، ولكن كان هذا قبل أن تراك وتحبك
ـ بفرض أن ما تقولينه صحيحًا ، لماذا لم تخبرني الحقيقة قبل أن أعرفها بهذه الطريقة المهينة
ـ لقد كانت تخشى هذه اللحظة ، أقسم لك بأنها صرفت النظر عن الرسالة والدكتوراة ولم يعد يهمها سواك ، أنت حبها الأول والأخير
نظر إليها مليًا قبل أن يقول متهكمًا :
- هل تتوقعين مني أن أصدق هذا ؟
أقبلت ليلى تحمل القهوة وقدمتها له ساخطة :
- تفضل
نظر إليها بضيق ثم ينهض :
- ليس لي رغبة في تناول القهوة ، كل ما أحتاجه هو النوم
اتجه ليرتقي الدرج بينما ليلى تراودها رغبة مجنونة في قذفه بالفنجان الذي تحمله
استدار إليها فجأة :
ـ عليك إيقاظي في تمام السابعة حتى لا أتأخر عليها
ازدادت رغبتها جنونًا فألقت بالفنجان خلفه في عنف جعله يستدير إليها ويصفعها بقسوة غير مبال بوجود نادية التي أصابها الخجل أضعاف ما أصاب ليلى فأسرعت تغادر المنزل

******

مرت الأيام التالية كالجحيم ، وصلت قسوة ممدوح إلى حد لا يحتمل ، استنفدت كل الأعذار له ، كان يمضي يومه خارج المنزل ثم يعود فجرًا ليوقظها ساخطًا ويأمرها بخدمته حتى يخلد للنوم ، واليوم جاء كعادته وأيقظها لتعد له الشاي الذي يطلبه منها دائمًا ولا يشربه في النهاية ، وضعت الغلاية على النار ، قذفها بملابسه قائلًا :
ـ اغسلي هذه الملابس ... الآن
حدقت بنظرات شاردة في الملابس التي لطختها مساحيق النساء وفاح منها عطرهن صارخًا وكأنه يوقظها من سباتها العميق ويفتح عينيها التي أغلقتهما طواعية ، انحنت وأمسكت بسترته ، في لحظة مجنونة قربتها من نيران الموقد المشتعلة وهي تغمغم بهيستيريا :
- هذه الملابس لن يطهرها الماء أبدًا
استدار إليها واتسعت عيناه في قلق وهو يتجه نحوها ، لكنها تابعت بنفس النبرة الهستيرية :
ـ لاتقترب أكثر من هذا ، وإلا أشعلت النار في نفسي
- تعقلي يا ليلى
ـ ومن أين لي بالعقل ، لقد سلبتني كل شيء ؟
ظل يراقبها متأهبًا وهي تنتحب :
- ماذا خسرت أنت ؟ بعضًا من كبريائك ؟ هل خدشت غرورك ؟ أنا خسرت كل شيء ولكنك ما زلتَ تتفنن في الانتقام مني ، إن كان جمالي هو ما يزيدك رغبة في إذلالي فأنا لا أريده ، سوف أجبرك على تطليقي كما أجبرتك على الزواج مني
همس دون أن يرفع عينيه عنها :
- كفى يا ليلى لقد اقتربت النار من يدك كثيرًا .... دعينا نبدأ من جديد
افقدتها دموعها القدرة على التمييز وهي تصرخ :
- بل دع النار تقترب مني ، دعها تطهرني من توحدي مع فاسق مثلك ، دعها تحررني من ذنب لا غفران له ..!

أظلم الدمع عينيها فلم تعد ترى النار التي التهمت السترة وأتجهت نحوها عدوًا ، وبرغم أن يداه كانت الأقرب فلم تدعها تمسها ، إلا أنها ظلت تصرخ حتى فقدت الوعي ، أخبرهم الطبيب بأنها مصابة بانهيار عصبي حاد ، وبأنه سبب مباشر في ذلك ، عليه أن يبتعد حتى لا تزداد حالتها سوءًا

ليست هناك تعليقات