إبحث عن موضوع

رواية وحدك حبيبتي الحلقة 13

لا أريد قيساً سواك


نامت ليلى نوماً متقطعاً وهى تراه كلما أغمضت عينيها ، استيقظت متلهفة تترقب وجوده فى أية لحظة ، لكنه لم يأت ، لقد نسى وعده لها كما نسى كل الوعود السابقة ، لكم تبغضه ، أنها لم تشعر بالإهانة أبداً إلا عندما تتعامل معه ، من يصدق ما يفعله بها ، ماذا سيحدث لو علم فؤاد بما آل إليه أمرها ؟ ماالذى سيقوله دكتور عبد الرحمن أو أى زميل آخر يصل إلى مسامعه أخبارها المخجلة ؟ منذ متى وهى لا تجيد التحكم بانفعالاتها إلى هذا الحد ؟
كانت عقارب الساعة تشير إلى السادسة مساء عندما دلف إلى الحجرة وحدق فى وجهها العابس قائلاً :
- ألم تستعدى بعد ؟
قالت كمن استيقظ فجأة من غفوة طويلة :
- ظننتك نسيت ما وعدتنى به
ابتسم قائلاً :
- كنت أتمنى هذا ، لكننى لم أستطع
نظرت إليه فى مزيج من السعادة والاستنكار فاتسعت ابتسامته قائلاً :
- أين تريدين الذهاب ؟
قالت فى لهفة :
- الملاهى بالطبع
بدل ملابسه سريعاً واتجه إلى الباب قائلاً :
- سأنتظرك بالسيارة ، لا تتأخرى
لم تستغرق ليلى وقتاً طويلاً حتى أسرعت تغادر المنزل ترقبها عينان ناريتان من خلف إحدى النوافذ وما أن ابتعدت قليلاً حتى استدارت نجوى إلى سميرة وهى تهتف فى ثورة وضيق :
- انظرى إلى هذه القروية ، انظرى ماذا ترتدى !!!
ـ ماذا ترتدى ؟
ابتعدت نجوى عن النافذة لتترك لسميرة فرصة المشاهدة فصاحت الأخيرة مستنكرة :
ـ ما هذا ! بنطلون من الجينز وتى شيرت !!
التفتت إلى نجوى وابتسمت قائلة :
- اطمئنى ، سيقتلها ممدوح ما أن يراها
زفرت نجوى وهى تكاد تنفجر غيظاً :
- ليته يفعل هذا ، هذه اللعينة تثير جنونى
صعدت ليلى إلى السيارة وهى تبتسم قائلة :
- هل تأخرت عليك ؟
أجابها دون أن يلتفت إليها :
- كلا
نظرت إليه وهمت أن تعترض على شئ ما ، لكنها فضلت الصمت الذى ساد بينهما طويلاً حتى شعرت ليلى بالضجر فقالت ساخطة :
- تبدو وكأنك مرغماً على هذه النزهة
قال فى نبرة واثقة :
- لا يستطيع أحد أن يرغمنى على فعل شئ لا أريده
توقف أخيراً أمام أحد الملاهى الليلية قائلاً :
- هيا لقد وصـ .....
قطع عبارته فجأة واتسعت عيناه فى صدمة قبل أن يهتف قائلاً :
- ما هذا ؟
قبل أن تعلق بشئ كان قد استدار عائداً بالسيارة إلى الخلف وكأن حية قد لدغته ، حدقت فيه بدهشة قائلة :
ـ ما الذى يزعجك إلى هذا الحد ؟
قال ثائراً :
- ألم تكفى عن استفزازى يا ليلى ، ما هذا الذى ترتدينه ؟ وما هذه التسريحة البلهاء ؟ ألم ترى نجوى حين تخرج معى فى نزهة ؟
صاحت غاضبة :
- لا تشبهنى أبداً بتلك الساقطة
تابع فى قسوة :
- معك حق هذه المرة ، فهى امرأة ، أما أنت فى هذا الجينز ، وهذا الذيل حصان ، تجعليننى أشعر وكأننى خطفتك من إحدى المدارس
ضرب كفاً بأخرى وهو يزفر فى ضيق قائلاً :
- ماذا سيقول كل من يراك معى ؟
هتفت غاضبة :
- ليس الخطأ فى ملابسى أنا ، بل فى ملابسك أنت
سألها متهكماً :
- ملابسى أنا !!
حدق فى وجهها ثم أردف غاضباً :
- هل الخطأ فى سترتى أم حذائى ، أو ربما كان فى رابطة العنق أو فى العطر الذى أضعه ؟
زفرت فى ضيق قائلة :
- ما قصدته هو أن ملابسك لا تلائم المكان الذى سنذهب إليه
تابع تحديقه فيها قائلاً :
- هل ذهبت إلى الملاهى الليلية من قبل ، هل رأيت الرجال والنساء يقفزون بالجينز فوق حلبة الرقص ؟ هل .........
قاطعته فى حدة قائلة :
- كفى ، من قال أننى أريد الذهاب إلى الملاهى الليلية ؟
أمسك كتفيها فى عنف صارخاً :
- أما زال لديك شك فى أن إثارتى ليست لصالحك ؟ .. ألم تخبرينى منذ قليل عن رغبتك فى الذهاب إلى الملاهى ؟
تراقصت ابتسامة على شفتيها قائلة :
- بلى ، لكننى لم أقصد الملاهى الليلية
ضاقت عيناه وهو يحدق فيها قائلاً :
- أية ملاهى تقصدين إذاً ؟
ثم أردف وهو يشير بإصبعه محذراً :
- لا تقولى .......
لم تستطع ليلى أن تتحكم فى انفعالاتها وهى ترى الجنون المتجسد على ملامحه فانفجرت ضاحكة حتى عجزت عن النطق واكتفت بهز رأسها وهو يحدق فيها مصدوماً
ضحك فى عصبية قائلاً :
- قلت لى كم عمرك ؟
ـ سأكمل السادسة والعشرين قريباً
قال ساخراً :
- احذفى عشرة سنوات إذاً ، أو ربما الأفضل أن تحذفى عشرين ، فهذه الرغبة لا تداعب سوى الأطفال
صاحت غاضبة :
- عد بى إلى المنزل إن كانت رغبتى تضجرك إلى هذا الحد
ما كادت تنهى عبارتها حتى أدار محرك السيارة وانطلق بها مسرعاً ، أشاحت بوجهها حتى لا يرى هذا الكم الهائل الذى انتابها من الغضب ، هل كان ينتظر قولها هذا ليتخلص من صحبتها ؟ ليس من حقه أبداً أن يغتال فرحتها بهذا الشكل ، فرحتها ...!! ولماذا تفرح وهى بصحبة هذا الوغد ؟ أنه شعور طبيعى ، لابد أن تفرح لكونها ستذهب فى نزهة بعد أن بقيت حبيسة المنزل كل هذا الوقت ، كما أن وجودها معه خارج جدران المنزل سيتيح لها الفرصة لملاحظة سلوكه بشكل أفضل ، لهذه الأسباب فقط ربما كانت سعيدة ، لا لشئ آخر ، فهو ....
استدارت تنظر إليه حين توقف فجأة أمام أحد المراكز الكبيرة لبيع الملابس الجاهزة ، قال وهو يغادر السيارة
ـ ابق هنا حتى أعود
انتظرته فى لهفة ، وقد خمنت ما سيفعله ؟ عاد بعد وقت قصير وهو يرتدى بنطلوناً من الجينز ، و تى شيرت أبيض اللون تبرز عضلاته المفتولة من كمه القصير ، ممسكاً فى يده بسترته التى غلفها بكيس كبير .
ألقى عليها نظرة سريعة قبل أن يتابع القيادة من جديد فهمست :
ـ أتعلم أنك الآن تبدو أكثر وسامة من ذى قبل ؟
نظر إليها فى تهكم قائلاً :
- أحقاً ؟
أجابته فى سعادة قائلة :
- حقاً
التفت إليها وضاقت عيناه ثم ما لبث أن ابتسم مرغماً وهو يهز رأسه قائلاً :
- سأرى إلى أين ننتهى أيتها الطفلة .
ترجلا من السيارة أمام إحدى الملاهى الكبيرة ، كان الزحام شديد جداً ، فغمغم ممدوح ساخطاً :
ـ يبدو أن الحمقى أمثالك كثيرون
ارتعدت ، وانتفض كفها الصغير حين أمسك به ليغرقه فى قبضته الكبيرة ، فالتفت إليها قائلاً فى تهكم
ـ من أجل الزحام فقط
تستطيع الآن أن تقسم بأنها لم تشعر بمثل هذه السعادة من قبل ، ربما يعود هذا لمَ أبداه من رضا وهو يتنقل معها مبتسماً من لعبة لأخرى ، وربما لتلك الرجولة المفرطة التى يحيطها بها من حين لآخر وتجعل الأخريات ينظرن إليها فى غيرة وحسد ، كل ما حولها يتلألأ ببريق رائع ، حتى المصابيح الكهربائية التى تملأ الملاهى غدت نجوماً فى سماء حملها إليها ......
أفاقت من شرودها على صوته قائلاً وهو يشير إلى إحدى التجمعات الكبيرة :
ـ ما رأيك هل تريدين مشاهدة الرقص الشرقى ؟
صاحت بسرعة :
- كلا
ثم أردفت وهى تنظر إليه فى مكر :
- إلا إذا كان هناك صديقة لك تود رؤيتها
ضحك فى مرح قائلاً :
- كلا ، فأنا لم آت إلى هنا منذ أكثر من عشرين عاماً على الأقل ، لم أكن فى سن تسمح بإغوائى بعد
سارا معاً وسط الزحام الذى لم يعد يعنيهما كثيراً ، وهمست فجأة فى صوت وصل إلى مسامعه بصعوبة مع هذا الزحام الشديد :
- ممدوح أريد أن أطلب منك شيئاً
حدق فيها فتابعت فى تردد :
- أنا ... أنا جائعة جداً
ازداد تحديقاً فيها ثم ما لبث أن قال فى تهكم :
- ظننتك ستطلبين منى أن أقبلك
تخضب وجهها احمراراً وهى تهمس فى خجل :
- ممدوح
عاد يقول فى تهكم :
- آسف يا طفلتى العزيزة إن كنت قد خدشت براءتك
تأملته ببعض الغضب فابتسم قائلاً :
- حسناً ، هيا بنا
ـ إلى أين ؟
ـ سنذهب لتناول الطعام فى أى مطعم قريب
ـ كلا ، أنا .....
ـ لا تخافى ، سأعود بك إلى هنا من جديد
أشارت إلى أحد الباعة الجائلين قائلة :
- أريد فطيرة بالسكر
همس مستنكراً :
- ليلى ...
ـ جربها وأنا على يقين من أنها ستعجبك
هز رأسه فى عدم أقتناع لكنه ما لبث أن تنهد فى استسلام قائلاً :
- حسناً ، كم فطيرة تريدين ؟
ابتسمت قائلة :
- واحدة تكفى
بادلها ابتسامتها قائلاً فى لهجة ذات مغزى :
- لا ظنى أن واحدة تكفى أبداً
اتجه إلى البائع واشترى لها ما طلبته ، تناولا وجبتهما سيراً ، حتى وصلا إلى أحد المقاهى الصغيرة فجذبها إليه قائلاً :
- تعالى لنشرب شيئاً بعد هذه الوجبة الدسمة
أشارت إلى صف لا نهاية له قائلة :
- ما رأيك فى قرطاس من الآيس كريم ؟
هم بالاعتراض لكنه عاد ليشير بيده قائلاً :
- آيس كريم ، هكذا تكتمل الصورة تماماً ، طفلة وأرجوحة وقرطاس من الآيس كريم
ضحكت قائلة :
- نسيت فطيرة السكر والصبى المجاور
بادلها الضحك قائلاً :
- حسناً ، لا تتحركى من هنا حتى أعود ، فالزحام شديد وسأجد صعوبة فى العثور عليك
تنهدت بعمق وهى تتأمله مبتعداً ، أنه أطول الموجودين قامة ، وأكثرهم رشاقة ووسامة ، أنه الرجل الوحيد الذى شعرت وهى بقربه بكل هذه السعادة وكأنها لم تقابل رجالاً من قبل كما أخبرها ، الرجل الوحيد الذى تخلت معه عن تمرد طالما أرقها لكونها خلقت امرأة ، كم تمنت مراراً لو أنها خلقت رجلاً ، لماذا في هذه اللحظة تعتز بل وتتلذذ أيضاً بأنوثتها ، لماذا تعشق ضعفها وهى تذوب بين نظراته وابتسامته ؟ هزت رأسها بعنف لتطرد منها هذه الأفكار التى لا تريد أن تصدقها ، أنه ليس أكثر من تجربة لهدف أسمى ، لقد ارتبطت به لتصعد إلى مكانة أعلى ، لا لتهبط إلى الهاوية وتصبح إحدى غانياته كما حذروها جميعاً ، تنهدت بعمق وأغمضت عينيها تحملها موجة من الحيرة ، عادت لتفتحهما عن أخرهما وهى تحدق فى هذا الرجل ذو الوجه البشع الذى أخذ يتفرس فيها وعلى وجهه ابتسامة كريهة ، تكشف عن أسنان شبيهة بتلك التى للفأر ، تحطم بعضها واستبدل البعض الآخر بأسنان ذهبية وفضية بدت وكأنها نثرت فى فمه الكبير، ابتلعت ريقها قائلة بصعوبة :
- أتريد شيئاً ؟
لكنه ظل يتأملها بنظرات أفزعتها وكأنه لم يسمع ما قالته ، استدار أخيراً وقال موجهاً حديثه إلى عملاقين آخرين لا يختلفا عنه سوى فى قصر القامة ، فقد كانا يمتلكان ذات الجسد الضخم والرأس الأصلع الصغير :
ـ ما رأيكم فى هذه الجميلة ؟
بادله الرجلين ابتسامته الكريهة وقال أحدهما :
- يبدو أننا سنمضى ليلة رائعة أيها الزعيم
تلفتت ليلى حولها بحثاً عمن يساعدها ، ولدهشتها وجدت الناس يهرولون وكأنهم لا يرون شيئاً ، تحول الزحام الشديد فجأة إلى ما يشبه الصحراء ، ذهبت أفكارها إلى ممدوح فوجدت نفسها تهرول بلا وعى ، بينما أسرع ثلاثتهم خلفها فى إصرار كوحوش جائعة ، شهقت فى ذعر عندما جذبها أحد القائمين على الألعاب إلى مكان خفى خلف لعبته هامساً :
- ابق هنا
انتظرت بأنفاس لاهثة وقلب يكاد يتوقف عن النبض حتى عاد الرجل أخيراً والقلق يملأ قسماته قائلاً :
ـ لقد ابتعدوا الآن ، لكنهم ما زالوا يبحثون عنك ، ولا أظنهم سيتوقفون عن هذا ، عليك مغادرة هذا المكان حالاً
أجابته فى ذعر :
- لقد أتيت بصحبة زوجى
قال الرجل بسرعة :
- ابحثى عنه وأسرعا بالفرار من هنا
ثم أردف محذراً :
- إذا سقطما فى يده لن يساعدكما أحد
عاد ممدوح بعد عناء بالآيس كريم الذى طلبته ليلى ، جن جنونه عندما لم يجدها وكاد أن يلقى به أرضاً لولا أنه لمحها تتجه إليه عدواً ، فتح فمه ساخطاً ليقول شيئاً لكنها ابتدرته قائلة :
- أريد العودة إلى المنزل
حدق فيها بدهشة قائلاً :
- ماذا حدث ؟ لم يكن هذا رأيك منذ قليل ؟
أجابته بصوت مرتبك :
- أشعر بصداع رهيب لا يمكننى تحمله
قال ساخراً :
- الصداع .... مرضك المفضل كلما أردت الشكوى !


تحجر الدمع فى عينيها وهى تهمس بصوت مختنق :
- ممدوح أرجوك عُد بى إلى المنزل ولا تسألنى لماذا
تأملها ملياً ثم قال فى نبرة هادئة :
- ألن تتناولى الآيس كريم أولاً ، لقد انتظرت فى صف لا نهاية له حتى حصلت عليه
تناولت قطعتها بيد مرتعشة ، وهى تتلفت حولها فى ذعر بينما عينا ممدوح لا تفارق وجهها فى محاولة لمعرفة ما لا تريد الإفصاح عنه ، ما كاد الآيس كريم يمس شفتيها حتى لمحت رأساً أصلعاً فسقط من يدها أرضاً وهى تهرول إلى المقهى القريب ، تاركة ممدوح يتلفت حوله فى جنون قبل أن يتبعها إلى الركن المظلم الذى قبعت فيه وهى تدفن وجهها بين كفيها وما كاد يمسهما حتى انتفضت مذعورة وانهمرت دموعها كالمطر ، ضمها إليه صامتاً وهو يمسح شعرها فى حنان لم تعهده فيه كثيراً حتى هدأت أنفاسها أخيراً فرفعت وجهها إليه وتلاقت عيونهما فهمس :
- هل أنت أفضل الآن ؟
هزت رأسها صامتة وابتعدت عنه قليلاً ويداه ما زالت تحتضن يديها وتمنحهما دفءً هى فى أمس الحاجة إليه قال بعد فترة من الصمت :
- هل أخبرتنى الآن عما يسبب لك كل هذا الذعر
أشاحت بوجهها قائلة :
- لا شئ
تنهد بصبر نافذ وهو يضغط على حروفه قائلاً :
- ثقى أننى أستطيع حمايتك يا ليلى
تأملته طويلاً ، ليقل ما يشاء فهو لم ير هؤلاء العمالقة بعد ، ولكم تتمنى أن لا يراهم أبداً لأنها على يقين من أن جنونه وتهوره وعجرفته التى لا حد لها ستدفعه إلى المواجهة ، وبعدها .. ربما تخسره للأبد ، لقد طلبت من الله مراراً أن يوقعه فى قبضة من لا يرحم حتى تنتقم منه ، لكنها الآن لا تريد شيئاً من هذا ، لا تريده أبداً
فوجئت به يقبل يديها هامساً :
- ليلى ... أين أنت ؟
تنهدت فى مرارة وهى تنهض قائلة :
- للأسف ، ما زلت هنا ، هيا بنا نذهب
نظر إليها فى مزيج من العتاب والغضب قائلاً :
- ما زلت لا تثقين بى
مشت معه وخطواتها تسابق خطواته وهى تنظر حولها فى كل الاتجاهات ، تلاقت عيناها الفزعة بعينى ممدوح الثائرة ، أشاحت بوجهها فى توتر بينما عض هو على شفتيه حتى كادتا أن تنزفا ، كانت تنظر خلفها بينما تسرع الخطى بصبر نافذ لتتخلص من الأمتار القليلة التى تفصل بينها وبين بوابة الخروج ، شهقت فزعاً ويأساً حين استدارت فجأة تحدق فى هذا الوجه الذى زادته قبحاً ابتسامته الكريهة قائلاً :
ـ تأخرت يا جميلتى ، لقد انتظرناك طويلاً لكننا لم نفقد الأمل
وفى عينى ممدوح لمحت كل مخاوفها فهتفت فى توسل :
- ممدوح ، ليس من الشجاعة أن تدخل فى معركة نعلم مسبقاً أنها خاسرة
أجابها فى تهكم :
- ربما الشجاعة أن أقدمك هدية لهم !!
أيقنت أنها لن تستطيع إقناعه فوجهت حديثها إلى العملاق قائلة :
- سأذهب معكم بعد أن تتركه يمضى
ابتسم الرجل فى شراسة قائلاً :
ـ حسناً ، يمكنه أن يذهب الآن ، لقد انتهت مهمته على أية حال
انكمشت ليلى وهى تتراجع فى رعب حينما اقترب منها ومد يده ليجذبها نحوه ، لكن قبضة ممدوح كانت أقرب إليه منها فسقطت على فكه كالصاعقة وهو يصرخ فيه غاضباً :
- ابتعد عنها أيها الخرتيت
استعاد العملاق توازنه سريعا ، وراح يقترب من ممدوح والشرر يتطاير من عينيه قائلاً فى لهجة بثت الرعب فى قلب ليلى :
- سأحطم عنقك أيها الوقـ....
وقبل أن يكمل عبارته كان ممدوح قد انهال عليه بسيل من اللكمات العنيفة التى أفقدته ما تبقى فى فمه من أسنان دفعة واحدة ، بينما التفت الجموع من حولهما وهم ينظرون إلى ممدوح فى إعجاب ، أما ليلى فقد اتسعت عيناها عن أخرهما وهى تحدق فى ممدوح شاردة ، ها هى قد استطاعت أخيراً أن تكشف عن وجه هذا الفارس الملثم الذى طالما داعب أحلامها فى اليقظة والمنام وبحثت عنه طويلاً فلم تجده حتى ظنت أن لا وجود له ، انه هو من تحب، هو فارسها ، لن تنكر ذلك بعد الآن
أفاقت من شرودها حين أمسك بها أحد العملاقين الآخرين فى طريقة مقززة فصرخت تستنجد بممدوح الذى ما كاد يستدير إليها حتى انتهز العملاق الذى يصارعه هذه الفرصة ليهوى بقبضته على فك ممدوح حتى مزق شفتيه غير أن الأخير لم يبال واتجه إلى ليلى لكن العملاق عاد ليركله بعنف فى ساقه المصابة ، حاول ممدوح تحمل آلامه صامتاً فصرخت ليلى :
- ساقه مصابة أيها المتوحش
نظر إليها فى غضب لم تستطع فهمه إلا عندما عاود العملاق ركلاته العنيفة على الساق المصابة حتى سقط ممدوح أرضاً وهو يصرخ فى ألم شاركته فيه ليلى وهى تهتف باسمه فى لوعة جعلت العملاق يستدير إليها قائلاً :
- ما الذى يروقك فى هذا الوغد الوقح حتى تضحين بنفسك من أجله
انهمرت دموعها وهى تحدق فى ممدوح الذى تصبب عرقاً وبدا وكأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة ، فعاد العملاق يصرخ فى هستيريا وهو ينظر إلى ممدوح فى تشف :
- عينيه الجميلتين أم لسانه السليط ، قولى يا جميلتى وسأسمح لك بالاحتفاظ به
أقترب من ممدوح وهو يزمجر فى وحشية قائلاً :
- أنا أفضل أن أقتلع عينيه وسأمنحها لك هدية
صرخت ليلى فى جنون وتراجع المحيطون بهما فى ذعر دون أن يجرؤ أحد منهم على التدخل بينما انحنى العملاق لينفذ فعلته البشعة ، لكنه ما كاد يفعل حتى اصطدمت رأسه بضربة قوية سددها له ممدوح بساقه السليمة ، ضربة جمع فيها كل ما يعتمل فى نفسه من ألم وغضب وخوف على ليلى ربما أكثر من خوفه على عينيه الذى هدده باقتلاعهما ، ضربته كانت كالجبل الذى انهار فوق رأس العملاق ، فسقط أرضاً مصدراً صوتاً عنيفاً وكأن قنبلة قد انفجرت ، استيقظ على أثرها ذلك الحشد المحيط بهما ، أسرع الرجال فى صحوة استغرقت زمناً طويلاً لتحدث ، فانقضوا على العملاقين الآخرين الذين حاولا الهرب دون جدوى ، أوسعوهما ضرباً ثم قيدوهما بالحبال انتظاراً لوصول الشرطة ، اندفعت ليلى إلى ممدوح تحتضنه قائلة :
- ممدوح .. حبيبى ، لقد كنت رائعاً ، من علمك كل هذا ؟
غمغم ساخراً قبل أن يفقد الوعى :
- صحبة النساء
*******
فتح ممدوح عينيه ببطء ليجد نفسه فوق فرش لأحد العاملين بالملهى ، محاطاً بعشرات الرجال والنساء ، ابتسم أحد الرجال الذى فهم ممدوح من مظهره أنه الطبيب قائلاً :
- حمداً لله على سلامتك أيها البطل ، لقد حقنتك ببعض المسكنات ، لكنك يجب أن تعرض نفسك على المتخصص مرة أخرى
انصرف الرجل تاركاً ممدوح وسط عشرات المراهقات ، اللواتى تسابقن لخدمته و بدت ليلى على رأسهن ، يقدمن له الشراب المثلج والساخن ، ويجففن له العرق المتصبب على وجهه ، ويهمسن فى أذنيه بسيل من عبارات الإعجاب والغزل ، حاولت ليلى التخلص منهن دون جدوى حتى هتفت إحداهن ساخطة :
- صديقتك تغار عليك بشكل لا يطاق
بادلتها ليلى سخطها قائلة :
- أنا زوجته ولست صديقته
همس ممدوح فى أذنها مبتسماً :
- أرجو أن تتذكرى هذا حين نعود للمنزل
تجاهلت عبارته قائلة :
- هؤلاء هن حشراتك إذاً
ابتسم قائلاً :
- حشرات صغيرات لم تنضج بعد
زفرت بصبر نافذ قائلة :
- هل نستطيع الذهاب الآن ؟
أجابها وهو يحاول النهوض :
- أظن هذا
مشت بجواره مزهوة وقد جعله المحيطون به بطلاً بعد أن خلصهم من هؤلاء الأوغاد الذين حولوا الملاهى إلى مدينة للرعب وهم يهاجمونها من وقت لأخر للسطو على الرجال أو خطف النساء كما فعلوا اليوم ولم يجرؤ أحد على الشهادة ضدهم ، سواء من العاملين بالملاهى أو مرتاديها خوفاً من بطشهم ، عرض عليه بعض الرجال توصيله إلى منزله لكنه رفض هذا زاعماً أنه أصبح بخير ، ما كاد ممدوح يضع ساقه فى السيارة حتى وجد إحدى الفتيات العاملات بالسيرك وقد أقبلت نحوه تحمل فى يدها عقداً من الفل ووقفت على بعد أمتار قليلة وهى تهتف باسمه هائمة ، غادر السيارة متجهاً إليها فوضعت العقد حول عنقه ثم ما لبثت أن قبلته فى مزيج من الشوق والخجل فقبلها وهو يهمس مبتسماً :
ـ أشكرك
اتجه عائداً إلى السيارة فعادت تهمس من جديد غير عابئة بوجود ليلى التى احترق وجهها غضباً :
ـ ستأتى مرة أخرى للاطمئنان علينا ، أليس كذلك ؟
ـ يسعدنى هذا يا جميلتى
******

ليست هناك تعليقات