طبيب استقبال .. الجزء الاول
طبيب_استقبال
الساعة الواحدة صباحًا، البرد قارس هنا و أنا لم أنم منذ البارحة سوى ساعتين.
تأخر زميلي، و من المفترض أن يتسلم نوبته كطبيب استقبال بدلًا مني، هل أنصرف، أم هل يتوجب علي الانتظار؟!
حالة طارئة!!
مراهق في السابعة عشرة من عمره، حالته مزرية، لونه شاحب، جلده متبقع بالأحمر- إن لم يكن ذلك البُهاق – تدخل معه أمه، و قد انفطر قلبها حتى شق وجهها أثر انفطاره، هرعت إليهما فأسندت الفتى على كتفي، قبل أن تهوي أمه على الأرض.. شعرت و كأن أحدهم أطفأ عقب لفافة تبغ في جانب رقبتي عندما لامسني بعض جلده..
يا إلهي!! هناك اثنان يحتضران هنا الآن، أحدهما لم ينم منذ البارحة و الآخر حالته خطيرة و قد شخص الأول حالة الأخير مبدئيًا بأنها حالة تسمم، و الوضع حرج.
إذن لن أنصرف الآن و لن أغفو حتى.
لم أتعامل مع حالات التسمم الجادة مثل هذه من قبل، و قد راعني ما رأيت، هو يشكو صداعًا أيضا، و آلامًا في عظامه.
هاتفت زميلا لي يكبرني بسنتين، كان يقطن بالقرب من المستشفى، أيقظته من نومه بالطبع، و لكنَّه في العنبر بعد دقيقتين من المكالمة، هو متخصص في السموم و سيسيطر على الوضع.
كان آخر ما رأيته هو مشهد زميلي يقف قلقًا على يمين الفتى الذي استلقى على ملاءته البيضاء التي استحال بياضها صفارًا خفيفًا، فما أكثر من استلقوا عليها اليوم!
كان يدير حوارا مع أمه يستفسر عن بعض الأشياء، و أمه تتقطع كلماتها و الألم يقضم قلبها قضمًا.
المشهد التالي كان شعاع الشمس يتراقص على استحياء في ممر العنبر، الساعة السادسة و النصف صباحًا، لقد نمت في الممر من شدة الإجهاد.
دخلت إلى الغرفة التي أقام فيها الفتى، و بجانبه إحدى الممرضات، يبدو أنها أشفقت على والدته، نادرًا ما يحدث هذا النوع من أداء الواجب.
و أنا أرى المشهد التقليدي، قد غرسوا في ذراعه تلك الإبرة المجوفة الدقيقة، تنقل إليه ما يسيل من ذلك الكيس الذي يحتوي على المحلول الملحي في تلك الأنبوبة البلاستيكية.
هدأ روع أمه قليلًا عندما بدأ يلفظ بالكلمات.
ابتسمت له عندما رأيته ينظر إلى، و قلت له مازحًا: أهكذا ترعبني أنا و أمك بالليلة الماضية؟ و ها أنت ذا توشك أن تقوم لتؤدي تمارين الصباح!
ابتسم، فرأيت أسنانه البيضاء الجميلة، و قلت له: و ها هي أسنانك أجمل من أسناني أنا العجوز، و ضحكت.
فضحك و قال، أهذا الشعر الجميل البني ينسدل من رأس عجوز؟!
ضحكت و قلت له: ما شاء الله ، يبدو عليك الذكاء، بارك الله فيك.
أخبرني زميلي الذي أفزعته من نومه أنها حالة غريبة من التسمم، و أنه ينتظر نتائج تحليل الدم، سنه 17 عامًا فعلًا، أمه تنفي تناوله لأطعمة من الشارع أو غير صحية و تقول أنه خسر الكثير من وزنه خلال الأسبوعين الماضيين و كان لطالما يشكو بالصداع و ألم العظام..
انتابني القلق حيال تلك الأعراض.
مضت ثلاثة أيام و حالته تتأرجح ما بين التحسن و الانتكاسة، أشفقت عليه حقًا و انفطر له قلبي، فليكن الله في عون أمه.
كنت أمر به كل يوم قبل أن أنصرف من نوبتي، و بعد أن أتسلمها، إن لم يكن فاقدًا للوعي كنت أحادثه لدقائق؛ عرفت من ذلك أنه طالب بالثانوية العامة، والده متوفي منذ عام و هو مُجدٌ في دراسته و يتمنى أن يلتحق بكلية الطب، و وضعه يروعه أن يفشل.
كنت أطمئنه، و لكنه كان قلقًا جدًا، قبل أن أنصرف من نوبتي في اليوم السابق ليوم عطلتي، أعطيت لأمه رقم هاتفي و أخبرتها بألّا تتردد في طلب أي شيء تحتاجه، انهالت عليّ دعواتها أثلجت قلبي، كان (أنَس) فاقدًا للوعي.
الساعة الخامسة فجرًا يبدأ هاتفي في الصراخ، إنه يوم عطلتي!!
لم أدركه لأرى من المتصل، رقم غير مسجل!
وضعته جانبًا ثم تحركت لأتوضأ عندما سمعت: "الصلاة خير من النوم"
أم أنس!!
لا بد أنها هي..
هرولت عائدا إلى حيث ألقيت هاتفي و عاودت الاتصال بالرقم، من الناحية الأخرى تصيح و الدموع تقطع صوتها تقطيعا: أغثني يا دكتور محمد، أنس في حالة خطرة و طبيب الاستقبال لا يدري ماذا يصنع.
يُتبع...
ــــــــــ
✍️ محمد_حماده
التعليقات على الموضوع