إبحث عن موضوع

اللوحة لم تكتمل

الوحدة مش إنك تكون لوحدك.. الوحدة إنك تكون قاعد وسط كل اللي تعرفهم ويعرفوك ورغم كده تبقى حاسس بالوحدة.. وكأنك ميت وسط أحياء.
لما خلصت ثانوية عامة وجبت مجموع متواضع حبيت أدخل كلية أكون مبسوط فيها.. كنت مؤمن جدًا إني لو درست الحاجة اللي بحبها هنجح فيها.. علشان كده حطيت كل الكليات اللي فيها دراسة للفن في الرغبات.. والتنسيق وداني تربية نوعية(واسمحولي محددتش هي تبع أني جامعة أو مكانها فين).
على عكس ما توقعت حياتي مكنتش وردي خالص هناك.. أكتشفت إن الكلية مرهقة ومليانة مواد عملي كتير.. بس كل التعب ده كنت بنساه بمجرد ما بقعد قدام اللوحة في أتيليهات مادة التصوير.. وأمسك الفرشة.. وأبدأ أرسم.
كنت أحيانًا بطول في الرسم لدرجة إن كل الطلبة بيمشوا وبفضل أنا لوحدي في الأخر.. مش حاسس بالزمن ولا بالدنيا.. أنا ممكن أقعد طول الليل أرسم بعد ما الكلية تقفل ولحد تاني يوم ومحدش يحس بوجودي.
فضلت ع الوضع ده كتير.. حقيقي مش عارف قد ايه.. أيام وشهور.. ويمكن سنين.. وأنا عايش ع الوضع ده.. وصوت فيروز بيرفقني طول مأنا برسم.
((قديش في ناس.. ع المفرق تنطر ناس.. وتشتي الدني..))
لحد ما في يوم.. دخلت عليا الأتيلية..
بنت جميلة جدًا.. وبسيطة جدًا.. لابسة فستان بسيط وراطة شعرها.. سألتني:
- انت بترسم لحد دلوقتي؟!.. الكلية كله مشيت.
استغربتها شوية.. استغربت لأن اول مرة حد ياخد باله مني.. فابتسمت ورديت:
-علشان كده ده أنسب وقت أرسم فيه.
-أنا عمري ما شفتك في الكلية!
-ولا أنا.
-انت مين؟
-عبد الرحمن.. وانتي؟
سكتت شوية وردت بتردد:
-همس.. اسمي همس.
.
الحوار ده كان هو بداية معرفتي بيها.. بقت تيجي كل يوم تقعد معايا في الأتيلية ترسم هي كمان.. كنت سعيد جدًا بإني أخيرًا لقيت رفيق ليا في الليالي الطويلة دي.. مكنش بيربط ما بينا غير الساعتين اللي بتقعد ترسم فيهم معايا.. وبعدها بتختفي.. بتظهر فجأة.. وتختفي فجأة.. كانت هادية جدًا.. بترسم بشغف كبير.. ودي أكتر حاجة خلتني مبسوط بصحوبتها.. كتير شكيت إنها ملاك أو جنية.. من كتر ما كانت هادية وشفافة.

((قديش كان في ناس عالمفرق تنطر ناس و تشتي الدنيي و يحملو شمسية و أنا بأيام الصحو ما حدا نطرني))

سألتني في مرة واحنا قاعدين
-مابازهقش؟.. أقصد يعني كل الرسم ده وعمرك ما زهقت.. أنا عمري ما شفتك غير بترسم.. غلط عليك جدًا تفضل تتعامل مع كل الألوان والتربنتين ده لفترات طويلة.. في ناس بتتعب من كتر التربنتين وشمه.
قلتلها:
- أنا جيت هنا علشان اعمل الحاجة اللي بحبها.. الرسم هو حياتي وموتي.. ومن أول ما دخلت الكلية.. وأنا وعدت نفسي أفضل أرسم حتى لو نبضي وقف.. الفن أبعد من حدود المادة.. احنا بنرسم بأرواحنا يا همس.
-يا سلام ع العمق.. طب وبالنسبة لفيروز.. انت مبتسمهش غيرها تقريبًا.
-علشان صوتها عامل زاي الهمس.. صوت جاي من عالم الأحلام بيهمس في ودانا ويطمنا إننا لسه بخير.. وإننا قادرين نِحس.. خليني أنا أسالك انتي هو ليه كل المواضيع اللي بترسميها عن الموت؟
ردت وكان باين الغم على ملامحها:
-علشان حياتي مليانة موت.. انا عايشة صوت أشباح كل اللي فقدتهم.. الموت كان رفيقي في بداية حياتي لما والدتي ماتت وهي بتولدني.. ومن بعدها والدي وكل اللي كانوا قريبين مني.. وبعدين خد هنا استني.. أنا من ساعة ما عرفتك وانت شغال في نفس اللوحة.. ومش بتخلصها.
سكت شوية وقلتلها:
-دي لوحة عن الوحدة.. الوحدة اللي بنحس بيها رغم إن ممكن يكون في ناس كتير حوالينا.. بقالي كتير بحاول أخلصها.. يمكن لو خلصتها أرتاح
-إن شاء الله هتخلصها
قالتها واختفت زاي كل مرة.. بصيت ليليتها للسماء فلقيت البدر كامل.. وعرفت إن الوقت من هيسعفني أخلص اللي بدأته زاي كل مرة.
******
((صار لي شي مية سنة مشلوحه بهالدكان ضجرت مني الحيطان و مستحيه تقول))
******
عبد الرحمن اختفى.. مبقتش أشوفه.. ولا كانه موجود في يوم.. قلقت عليه وسالت عليه في كل الأتيليهات وكل تادفعات محدش عارفه.. مش عارفة ليه طول الفترة اللي فاتت مفكرتش أسأله هو فين ومنين او اعرف اي معلومات عنه.. أعرف المطاف سألت عم (علي) المسئول عن أتيلية تصوير.. واعترفتله إني كنت أحيانا بغفله وأطلع ارسم في الأتيلية بعد الطلبة تروح.
سكت وعينه وسعت.. وفضلت شوية بيفكر قبل ما يتكلم أخيرًا:
-هحكيلك حاجة.. من حوتلي خمس سنين كده كان في طالب شاطر أوي ومجتهد جدًا.. كان بيحب يرسم ويشتغل كتير.. كان بيتفق معايا إني أسمحله يطلع يقعد في أتيلية تصوير يفضى علشان يرسم.. كان بيحاول يتعلم بسرعة ويعمل لوحة يشترك بيها في اي معرض شبابي.. كان شايف إن دي الحاجة اللي هتخليه فنان.. لكنه مكملش حلمه.. لأن في يوم فتحت باب الأتيلية فلقيته واقع ع الأرض ميت.
مكنتش أعرف إنه تعبان في الرئة وعنده ضيق تنفس.. عرض نفسه لكميات كبيرة من التربنتين والضغط خلته يموت مخنوق قبل ما يكمل اللوحة في يوم كان البدر فيه كامل لأنه كان بيحب يرسم وهو شايف ضوء البدر.
أعتقد إنتي فهمتي دلوقتي مين هو الولد ده.. عبد الرحمن.
الحكاية كانت مرعبة.. ومكنتش قادرة استوعبها. هو ده اللي كان يقصده لما قال:(أنا وعدت نفسي أفضل أرسم حتى لو نبضي وقف.. الفن أبعد من حدود المادة.. احنا بنرسم بأرواحنا )
بعد يومين لقيت عم علي بيوقفي وبيديني توال مرسةم عليه لوحة مش كاملة.. لوحة أنا عرفاها كويس.. لوحة عن الوحدة اللي بنحسها حتى واحنا حولينا ناس كتير.
ثالي إنه محتفظ بيها من يوميها بقاله ٥ سنين.. خدتها منه وكنت عارفة هعمل ايه.. كملتها.. كملتها لأجل روحه ترتاح.. دي القصة اللي بحكيها لكل اللي بيقف يتفرج ع اللوحة في المعرض زيكم.. عارفة إنكم شايفني بخرف علشان أشهر اللوحة بالحكاية دي.. بس الموضوع كله إن دي حكاية فنان الوقت مأسعفهوش يكمل اللي بدئه حي.. أتمني يكون دلوقتي مرتاح وبطل يقعد لوحده علشان يرسم.

((صار لي شي مية سنة مشلوحه بهالدكان ضجرت مني الحيطان و مستحيه تقول))

ليست هناك تعليقات